حقاً مراقب

ت + ت - الحجم الطبيعي

خلال جولة أحد زملائي في أحد متاجر لندن الشهيرة الصيف الماضي، انتابه شعور بأن أحدهم يتابعه بنظراته.

لم يخطئ حدس زميلي، حيث التفت فإذا بشاب يبدو على ملامحه أنه من أصول عربية ينظر إليه، فشعر زميلي بأن الشخص يود أن يخبره بأمر، فما أن ابتسم زميلي في وجهه مشجعا له على الحديث، حتى اقترب منه الشاب وحياه بلغة عربية سليمة، وهمس له: هل تعلم أن هذا المحل يراقب تحركاتك عن طريق مراقبة هاتفك الخلوي؟ نظر إليه زميلي غير مصدق، فاستدرك الرجل قائلا: أقول لك ذلك فقط لأنك عربي!

ويستطرد زميلي: حديث الشاب العربي جعلني أشعر بمزيج غريب من الغضب والخوف، هل يمكن أن أكون مراقبا بالفعل؟ وهل السبب لون بشرتي؟ وأخيرا حسمت أمري وتقدمت سريعا نحو مدير المتجر سائلا بعصبية عن حقيقة مراقبة متجره لي ولهاتفي الخلوي.

ابتسم مدير المتجر وقال: سيدي لسنا نراقبك رغبة منا في انتهاك خصوصيتك، ما نقوم به هو استخدام تكنولوجيا تسمى فوت باث "footbath"، تعمل عن طريق مراقبة ترددات الهاتف الخلوي عبر عدد من الأجهزة موضوعة بدقة في المتجر، ومن ثم يقوم الكمبيوتر بجمع المعلومات التي تصل إليه من هذه الأجهزة، وتحليلها ورسم خطوط توضح كيفية تحرك العميل في المتجر، والوقت الذي أمضاه في أقسامه المختلفة، والنقاط التي توقف عندها لفترة أطول، وهذا يساعدنا على وضع البضائع والمنتجات في النقاط التي يتوقف أو يمر فيها الزبون أكثر من غيرها، كما تساعدنا هذه التقنية على فهم عقلية ونمط التسوق لدى العملاء.

وأضاف: لكني أود أن أؤكد أننا لا نقوم بانتهاك خصوصية العملاء، ولا نقوم بالاطلاع على المعلومات والصور والرسائل المخزنة في هواتفهم، لأننا نجمع الترددات بطريقة عشوائية ومن دون ربط التردد بالهاتف.

ما قاله مدير المتجر يستند إلى حقيقة توصلت إليها البحوث في مجال التسويق، حيث تبين أن الزبائن الذين يمضون وقتا أطول في المتاجر هم الزبائن الأكثر شراء، لذا يلجأ أصحاب المتاجر إلى استخدام مثل هذه التقنيات لتساعدهم في جعل متاجرهم أكثر جذبا وقدرة على إبقاء المتسوقين وقتا أطول فيها.

والغريب أن هذه التكنولوجيا مستخدمة في بريطانيا منذ أربع سنوات تقريبا، ولكنها لم تثر أي اهتمام إعلامي، إلا أنها أثارت ضجة هائلة عند دخولها إلى الأسواق الأميركية في نوفمبر الماضي، بسبب الخوف من انتهاك التكنولوجيا لخصوصية المتسوقين، وزادت حدة الانتقادات للتكنولوجيا بعد تصريحات السيناتور الأميركي الديمقراطي (شارلز شومر) بأن تتبع ترددات الجهاز الخلوي للمتسوقين، يجب أن يكون بموافقة المتسوقين، وأن يكون للمتسوق الحق في قبول أو رفض تتبع هاتفه الخلوي.

وأشار "شومر" إلى أن الأمر قد يشكل انتهاكا لقانون الخصوصية، وأنه يجب تقديم ضمانات للحيلولة دون قيام الموظفين القائمين على رصد وتحليل البيانات، بالاطلاع على البيانات المخزنة في الهواتف الخلوية للمتسوقين.

ورغم أني لا أستطيع الجزم بوجود هذه التقنية في أسواقنا أو عدمه، فإننا نرى من الضروري طرح بعض التساؤلات المهمة التي قد نواجهها في المستقبل، في حال استخدام هذه التكنولوجيا أو غيرها، حتى يتسنى لنا التعامل مع التحديات بالشكل المناسب.

فمن الضروري أولا، حصول المتجر على موافقة المتسوق، قبل مراقبة ترددات الهاتف واطلاعه بشكل وافٍ على عدم انتهاك تلك التقنية لخصوصيته.

وإذا افترضنا جدلا أن التكنولوجيا تحدد الأنماط الشرائية للشخص صاحب الهاتف وتربط بين الهاتف وصاحبه ونمط تسوقه، فإن الأمر يتعدى نطاق الخصوصية إلى نطاق قانوني أكثر تعقيدا، يتعلق بحماية سرية المعلومات الشخصية، والذي يستلزم قيام المحل التجاري بأخذ موافقة صريحة من المتسوق على استخدام بياناته الشخصية لأغراض تسويقية.

أما المسألة الثالثة المهمة، فتتعلق بالطرف الثالث الذي يقوم، بالنيابة عن المتجر، بجمع المعلومات وتحليلها، فيجب أن يكون هذا الطرف موجودا في دولة الإمارات ليسهل على المتسوقين مقاضاة الشركة في حال انتهاك خصوصيتهم، لوجود نصوص واضحة وصريحة في القانون الإماراتي تعالج هذه القضايا.

وعلى سبيل المثال، فالمرسوم بقانون رقم (5) لسنة 2012 في شأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات، يعاقب أي شخص أو جهة تقوم باستخدام وسائل تقنية المعلومات في الاعتداء على خصوصية شخص، في غير الأحوال المصرح بها قانوناً.

ويصبح الأمر أكثر تعقيدا في حالة وجود الشركة التي تقوم بجمع المعلومات وتحليلها في دولة أجنبية، لا توجد فيها قوانين لحماية الخصوصية كالتي توجد في الإمارات، ففي هذه الحالة تثور مسائل عن القانون الذي يطبق، وعن كيفية تنفيذ الحكم على شركة غير موجودة في الإمارات.

وخير دليل على هذا الموضوع، هو الضجة التي أثارها قيام تطبيق "انستغرام" بتعديل سياسية الخصوصية، بحيث يصبح من حق الموقع بيع الصور والمعلومات الخاصة بالمستخدمين دون الرجوع لهم، فثار الكثير من التساؤلات لدى مستخدمي التطبيق في الدولة، عن الحماية القانونية المتوفرة لهم في ظل القانون الإماراتي، وعن كيفية رفع دعوى قضائية على شركة "انستغرام"، في حالة بيع صورهم الخاصة أو صور عائلاتهم أو استخدامها لأغراض دعائية دون موافقتهم.

ولكن ما هي الجهة التي ستكون مخولة مراقبة هذه التكنولوجيا في حال تطبيقها والتأكد من ملاءمتها وعدم انتهاكها لخصوصية المتسوقين؟ هل هي هيئة تنظيم الاتصالات، باعتبار الموضوع متعلقا بترددات الهاتف المحمول؟ أم أن الموضوع تجاري بحت يخضع لرقابة الجهات المختصة بإصدار التراخيص التجارية؟!

وتبقى التكنولوجيا تحديا حقيقيا للتشريعات في جميع أنحاء العالم، حيث يبرز السؤال الأهم: هل يجب أن تقود التكنولوجيا التشريعات أم أن التشريعات هي التي يجب أن تقود التكنولوجيا بإعطاء الحلول التشريعية للتحديات المبتكرة للتكنولوجيا؟

 

Email