الليبرالية بين اليسار المتكلّس واليمين المتطرّف

ت + ت - الحجم الطبيعي

الليبرالية هي كسواها من العناوين التي تُحيل إلى تيار أو نظرية أو نموذج، لا تنفك تثير الأسئلة وتشكّل مادة للنظر والتأمل، بقدر ما يلتبس مفهومها وتتعدد تعريفاتها أو دلالاتها. ثمة محاولة في هذا الخصوص لعالِم الاجتماع الفرنسي جوفروي دي لاغاسنيري عنوانها: "الدرس الأخير لميشال فوكو"، وفيها يعود المؤلف إلى الفيلسوف الراحل (1926-1984) الذي شغل الناس في زمنه بأفكاره وسجالاته ومواقفه.

وما زال يشغلهم، في مماته، بأعماله وكتاباته، أو بأوراقه غير المنشورة، والتي هي الآن محل خلاف الورثة، إذ تقدّر قيمتها بحوالي أربعة ملايين يورو. ولا غرابة، فقد كان فوكو من ألمع المفكرين الذين جددوا في الفلسفة على نحو جذري، سواء من حيث الحقل والمنهج أو من حيث اللغة والعدة المفهومية، كما تشهد الأصداء الواسعة والآثار العميقة التي تركها في الفكر العالمي.

والمقصود بالدرس الأخير هو محاضرات فوكو في "الكوليج دي فرانس" حول الليبرالية الجديدة، وفيها أبدى انفتاحه على الفكر الليبرالي، الأمر الذي أثار يومها النقاش والخلاف، إذ ذهب البعض إلى أن فوكو تخلى عن يساريته لكي يجنح نحو اليمين.

وقد عدّ موقفه هذا مخالفاً للتقاليد الفكرية الفرنسية، لأن معظم المثقفين والمفكرين يصنّفون في خانة اليسار، مع استثناءات قليلة. ولهذا لم يظهر مفكر ليبرالي في فرنسا، على غرار ما نجد في العالم الأنجلوساكسوني، من أعلام الليبرالية، سواء بنسختها الكلاسيكية أو الجديدة، من آدم سميث حتى جون راولز، مروراً بأعلام بارزين أمثال فردريك هايك، وإشعيا برلين وملتون فريدمان...

هل تخلى فوكو، فعلاً عن يساريته؟ ليس اليسار هو الأصل في الموقف الفلسفي، بل النقد، أياً كان الاتجاه أو المذهب. فالأحرى القول إن فوكو لم يتخلّ عن موقفه النقدي، إذ الفلسفة هي نشاط نقدي وشغب عقلي في مواجهة سلطة النص ومنطق الأمر، بقدر ما هي مراجعة الفيلسوف لأفكاره: قوالبه الذهنية، طريقته في التفكير، منظومة تصوراته للعالم.. هذان وجهان لا ينفك أحدهما عن الآخر: عودة المفكر على أفكاره، وتفكيكه للواقع على نحو يكشف وجوه الحجب والخداع والتلاعب، أو أشكال الإقصاء والاستبداد والاستلاب.

وإذا كان اليسار نشأ، نقدياً، مع ماركس، فإن أتباعه قد تخلوا عن منزعهم النقدي، بقدر ما حولوا الماركسية إلى منظومة أيديولوجية مغلقة، أي إلى شبه ديانة حديثة يشتغل مثقفوها ودعاتها بتأليه مقولات المعلم المؤسس، أو بعبادة الذين حكموا باسم الماركسية وشعاراتها.

هذا الموقف النقدي من اليسار الماركسي، الذي لخصه قول فوكو المعروف: "كفانا حديثاً عن ماركس"، هو الذي جعله يرى بعين إيجابية إلى الليبرالية التي كانت محط الهجوم من جانب اليسار، بوصفهم لها نظرية رجعية وخطيرة، أنشئت وسخرت لخدمة النظام الرأسمالي.

والطريف في الأمر، وكما يبين جوفروي دي لاغاسنيري، أن ما أثار اهتمام فوكو، في الليبرالية، هو ما كان يثير فزع أهل اليسار منها، أي "حرية السوق" بالذات، وكان أن قدّم مقاربة جديدة في المسألة، تكشف ما كانت تطمسه الفلسفات السياسية والاجتماعية المعادية لليبرالية.

من وجوه هذه المقاربة، أن السوق الحرّة ليست مجرد نشاط اقتصادي، وإنما لها أبعادها الاجتماعية والثقافية، إذ هي نمط من العلاقات بين البشر يخلق إمكانات للتفكير والتدبير، بقدر ما يجسد شكلاً من أشكال العقلنة والتنظيم. ولذا فهي تغير علاقتنا بمفردات وجودنا، بقدر ما تغيّر نظرتنا إلى المجتمع والدولة والقانون.

. وبيانه أن السوق إذ تقوم على حرية الاختيار والتداول والتنافس والتبادل، إنما تعطي الأولوية لما هو فردي وخاص ومتنوع ومتعارض، على ما هو جمعي وعام وأحادي وشمولي... من هنا لا تُعرف الليبرالية من خلال المفهوم القانوني والمجرد لمصطلح "الحرية"، بل من خلال مقولة "التعدد".

 فالمجتمع ليس وحدة تامة متجانسة متراصة، كما يريد منظرو الاتحاد، على اختلاف اتجاهاتهم، بل هو متعدد، إن من حيث دوائره ومستوياته، أو من حيث أنشطته وقطاعاته، أو من حيث محاوره وصراعاته، أو من حيث قواه وفاعلياته...

ولهذا تتجاوز الليبرالية الجديدة، النسخة الكلاسيكية بشعارها المعروف: "دعه يمر"، بمعنى مطالبة الدولة بإطلاق حرية السوق. فالشعار في النسخة الجديدة هو: "لا تدع الدولة تمر"، بمعنى أن المطلب هنا هو منع الدولة من التدخل والرقابة والضبط، في ما يخص حرية التبادل التي تتعارض مع قولبة العقول وتطويع الأجساد. من هنا فإن الوجه الآخر لحرية السوق في الاقتصاد، هو ما تفتحه الليبرالية من إمكان التحرر الفكري والسياسي، كما يتجلى ذلك في اكتساب مزيد من الحقوق أو في توسيع مساحات الحريات الديمقراطية.

لعل هذا ما أثار حفيظة اليسار، بل فزعه، لأنه يكشف أن ما نحسبه تحررياً تقدمياً، ليس هو كذلك، بل هو مضاد للحريات، وما نحسبه رجعياً قد يفتح إمكانات للتحرر من أشكال الاستلاب والاستبداد.

وهكذا تقلب الليبرالية الجديدة الآية، بقدر ما تغلّب منطق التعدد والكثرة والتباين والصراع، على منطق الوحدة والاندماج والانصهار. وهذا ما يعبر عنه قولهم: "لا وجود للمجتمع"، لأن ما يوجد، في النهاية، على أرض الواقع الحي والمحايث، أفراد وجماعات مختلفون في أذواقهم وميولهم وبيئاتهم ورغباتهم ومشاريعهم، أفراد منخرطون، بتأثيراتهم المتبادلة، في الحراك الاجتماعي، المفتوح على إمكاناته الغنية واحتمالاته المتعددة ورهاناته المتضاربة، فضلاً عن علاقاته المتحولة باستمرار.

من هنا تتعدد، في المنطق الليبرالي، التصورات والنماذج والخيارات والرهانات، في ما يخص تشخيص الواقع وحل المشكلات، أي لا وجود لحل واحد، أو نهائي، اشتراكي أو رأسمالي، يساري أو يميني. في ضوء هذه المقاربة الجديدة تنقلب معايير التقييم ومبادئ التصنيف، بقدر ما يتم تجاوز الثنائيات السائدة حول تعارض المدارس الأيديولوجية والمذاهب السياسية.

ولهذا يضع الليبراليون الجدد في سلة واحدة، أهل اليمين المحافظ، واليسار المتشدد. صحيح أن هؤلاء وأولئك مختلفون من حيث النموذج أو الشعار، ولكنهم متفقون من حيث تصورهم لبناء الدول والمجتمعات، من خلال مبدأ واحد متعالٍ يقبض على الحياة الاجتماعية. الكل أصحاب عقائد كليّة، ومشاريع شمولية ترمي إلى عسكرة المجتمعات وتقويض الحريات.

بهذا فإن أهل اليسار قد عارضوا الليبرالية، في ما حاولت تفكيكه وهدمه من أشكال وآليات القولبة والتدجين والإخضاع، فكانوا بذلك يقفون ضد ما يدعون إليه، بقدر ما يشهدون على جهلهم بمبنى الأقوال ومآل الأفعال، أي كانوا أقرب إلى اليمين مما يحسبون. هذه الحقيقة يعبر عنها أبلغ تعبير، قول بعض الفرنسيين إن اليسار عندما يتسلم السلطة يحكم على طريقة اليمين. وبالعكس؛ إن اليمين عندما يمسك بمقاليد السلطة يتصرف بطريقة يسارية.

 

Email