أميركا والعنف المسلح

ت + ت - الحجم الطبيعي

ألقى الرئيس الأميركي باراك أوباما خطابا في حفل التأبين متعدد الديانات، الذي أقيم مؤخرا لضحايا حادث مدرسة "ساندي هوك" الابتدائية في نيوتاون بولاية كونيتيكت. وعلى نحو غير مفاجئ، فقد أثار خطابه المشاعر، وضرب على جميع الأوتار الحساسة.

لكن الحقيقة الحزينة والرهيبة والمأساوية، هي أنه لا شيء مما نشهده يعتبر مفاجئا.. مثير للصدمة، نعم، ولكن ليس مفاجئا، إذ إننا، في نهاية المطاف، نعرف هذه الحلقة حق المعرفة.

فهي إحدى سمات أميركا الحديثة، حيث تقع حادثة إطلاق نار جماعي، فنصاب بالإعياء لدى رؤيتنا لها تتكشف، ثم نصاب بالحزن لدى معرفتنا التفاصيل المتعلقة بالضحايا، ويعبر ساستنا عن تعازيهم على نحو كئيب، ويذكر كثير منهم شيئا عن ضرورة أن نفعل شيئا حيال ذلك حقا، فيما يذكر قليل منهم ضرورة دراسة قوانين الأسلحة الأميركية، لا لشيء إلا ليتم توبيخهم على الفور، وإخبارهم بأن هذا ليس الوقت المناسب لأن يكونوا "سياسيين".

لقد حان الوقت لكسر هذه الحلقة البالية، ويمكننا هذه المرة أن نحسب أن الرأي العام الأميركي مصمم على عدم اتباع ذلك السيناريو الملطخ بالدماء.

ولا تمثل ردود أفعالنا على هذه المآسي معادلة صفرية، فالشعور بالغضب لا يعني أننا لا نستطيع أن نشعر أيضا بالحزن والأسى. ومن الواضح أن الملايين منا يشعرون بالغضب، بسبب إضافة 20 طفلا بريئا إلى قائمة أسماء ضحايا العنف المسلح الطويلة، وبسبب عدم مبادرتنا، أو بالأحرى رفضنا، لكسر هذه الحلقة.

ويوم الحادث، وبعد ساعات قليلة من إطلاق النار، أدلى الرئيس الأميركي، ربما استجابة لمطالبة الجمهور بالتحرك، بتصريح في البيت الأبيض قائلا: "سوف يتعين علينا أن نعمل معا، ونتخذ إجراءات مجدية لمنع وقوع المزيد من المآسي المماثلة، بغض النظر عن السياسة".

"إجراءات مجدية"، عبارة غامضة بشكل رائع تعني عادة، بلغة واشنطن، عكس ما يبدو أنها تعنيه على وجه الدقة. وكانت المعارضة لهذه العبارة الرخوة فورية أيضا، إذ قال مايكل بلومبرغ، عمدة مدينة نيويورك: "المناداة باتخاذ إجراءات مجدية ليست كافية، إذ إننا بحاجة إلى إجراءات فورية. لقد سمعنا كل الخطب من قبل، وما لم نره هو القيادة، لا من جانب البيت الأبيض ولا من جانب الكونغرس. وينبغي لذلك أن ينتهي اليوم، فهذه مأساة وطنية تحتاج إلى استجابة وطنية".

وبالتالي، فقد عمد الرئيس الأميركي، خلال حفل التأبين في نيوتاون، إلى تصعيد لهجته الخطابية، بقوله: "لم يعد بوسعنا أن نحتمل هذا.. وخلال الأسابيع المقبلة سوف أستخدم كل ما يتمتع به هذا المنصب من صلاحيات، لإشراك زملائي المواطنين، بدءا من موظفي إنفاذ القانون، ووصولا إلى اختصاصيي الصحة النفسية والآباء والمربين، في محاولة تهدف إلى الحيلولة دون وقوع المزيد من المآسي المماثلة".

في الواقع، فإن الرئاسة تتمتع بالعديد من الصلاحيات المحددة بوضوح، إلا أن الكثير من تلك الصلاحيات يكمن في ما يختار شاغل المنصب أن يصنعه منها. دعنا نأمل أن يتعامل أوباما مع هذا التهديد، الذي قتل ما يقرب من 32 الف أميركي خلال العام الماضي وحده، بالقدر نفسه من الحزم.

وفي خطابه، قال الرئيس: "لأننا لا نملك خيارا، فإننا لا نستطيع أن نسلم بمثل هذه الأحداث على أنها روتين".

في حقيقة الأمر، فإننا نملك خيارا آخر، وهو خيار عدم القيام بأي شيء، والسماح بوقوع المزيد من الضحايا الأبرياء، والواقع أن هذا هو الخيار الذي اتخذه البيت الأبيض حتى الآن.

وكما يقول تشارلي سافاج في صحيفة "نيويورك تايمز"، فقد أهملت الإدارة الأميركية مقترحات قدمتها وزارة العدل نفسها لتحسين عملية التحقق من الخلفية، في أعقاب إطلاق النار على عضوة الكونغرس السابقة غابرييل غيفوردز. وكما يشير سافاج، فقد كان من الممكن تنفيذ العديد من التدابير بموجب أمر تنفيذي، ولكن "المقترحات استبعدت إلى حد كبير دون أن يتم العمل بها".

ومن الواضح أن البيت الأبيض اتخذ خيارا آخر، إذ تباهى الرئيس الأميركي نفسه في مقالة بعد مرور شهرين على إطلاق النار على غيفوردز، قائلا: "لم تقلص إدارتي حقوق مالكي الأسلحة، بل وسعتها، سامحة للناس بحمل السلاح في الحدائق الوطنية ومحميات الحياة البرية". كما دعا، في المقالة نفسها، إلى "بدء مناقشة جديدة بشأن الطريقة التي تمكننا من الحفاظ على أمن أميركا، من أجل جميع أبناء شعبنا".

ولكن من شأن صياغة أصلية لتلك المناقشة، تختلف عن الصياغة المصطنعة التي نسمعها بعد كل حادث إطلاق نار جماعي، أن تشمل دراسة صادقة للسبب في أن العديد من الأميركيين يشعرون بالحاجة إلى امتلاك السلاح. ويمثل تعهد الرئيس أوباما مؤخرا بإرسال مقترحات لسياسة أسلحة جديدة إلى الكونغرس بحلول يناير المقبل، خطوة هامة في الاتجاه الصحيح.

وتضم أميركا الآن نحو 300 مليون قطعة سلاح يملكها مدنيون، ويصل ما يتراوح بين 4 ملايين و7 ملايين قطعة سلاح أخرى إلى السوق كل عام. وإليكم بعض الإحصاءات الأخرى المثيرة للقلق: يسفر السلاح عن إصابة أو مقتل ما يقرب من 100 ألف أميركي كل عام.

ومنذ أن قتل بوب كيندي ومارتن لوثر كينغ بالرصاص في عام 1968، فقد قتل ما يزيد على مليون أميركي بالرصاص. ويعتبر الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 5 و14 عاما، أكثر عرضة لأن يقتلوا بالسلاح في أميركا منهم في الدول الصناعية الأخرى، وذلك بواقع 13 ضعفا. ومن بين جميع الأطفال الذين قتلوا بالسلاح في الدول الـ23 الأكثر ثراء، كانت نسبة الأطفال الأميركيين 87%.

وعما قريب، سيسافر ملايين الأميركيين لرؤية ذويهم خلال عطلة عيد الميلاد. ولكن بالنسبة لـ30 ألفا منهم، فإن هذا سيكون آخر موسم عطلة. فنحن نعلم أن 30 ألف أميركي لن يكونوا موجودين في عام 2014، لأنهم سيقعون ضحية للعنف المسلح.

إن أفضل ما يمكن فعله لتكريم ضحايا نيوتاون، هو إلقاء نظرة واعية على كل ما أدى إلى قتلهم، لا سيما الحكمة التقليدية المتشائمة التي تقول إننا لن نتمكن أبدا من منع هذا من الحدوث مرة ثانية وثالثة ورابعة وخامسة و...

 

Email