تبدلات جذرية في البرلمان الياباني

ت + ت - الحجم الطبيعي

أتيحت لي الفرصة من داخل اليابان لمتابعة انتخاب مجلس الدايت أو البرلمان الياباني، والتي جرت في 16 ديسمبر/ كانون الأول 2012، وقد تم التحضير لها بشكل مكثف خلال الأشهر الماضية، وجرت بشفافية عالية. وبفضل التقنيات الحديثة عالية الجودة في اليابان، لم يتأخر إعلان النتائج الرسمية سوى ساعات قليلة بعد إقفال صناديق الاقتراع والقيام بإجراءات الفرز السريعة.

من المشاهد الجميلة المألوفة في الانتخابات النيابية في اليابان، أن رئيس التكتل يسارع إلى وضع وردة في خانة النائب الذي يتم انتخابه من كتلته، وسط تهليل مناصريه.

وتكتمل الفرحة بإعلان النتائج، حيث يبادر اليابانيون إلى تهنئة بعضهم البعض خلال فترة وجيزة، ثم ينصرف الجميع إلى بيوتهم لتتولى أجهزة الإعلام مناقشة النتائج المعلنة، التي يتقبلها الجميع دون أي اعتراض أو تذمر. ويعمل الرابح والخاسر معا على استخلاص الدروس المستفادة من تلك الانتخابات، وتتولى الصحافة اليومية ومراكز الأبحاث تحليل النتائج واستكشاف آفاق المرحلة المقبلة.

دعا الحزب الديمقراطي الحاكم إلى إجراء الانتخابات في 16 ديسمبر الجاري، بعد أن حاول مرارا تأخير تجرع مرارة الهزيمة المرتقبة. فقد وصل هذا الحزب إلى سدة الحكم في العام 2009، بعد أن أنزل هزيمة قاسية بالجزب الليبرالي الديمقراطي أبعدته ثلاث سنوات عن حكم اليابان.

علما بأن هذا الحزب لعب الدور الأساسي في سياسة اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، فحكم اليابان من العام 1955 حتى العام 1993 دون انقطاع. ثم تعرض لهزيمة قاسية حملت الحزب الاشتراكي إلى السلطة من عام 1993 حتى 1996، لينتهي بصورة مأساوية بعد أن تفكك هذا الحزب وغاب نهائيا عن الساحة السياسية في اليابان.

بدوره، تأسس الحزب الديمقراطي في اليابان من رحم الحزب الليبرالي الديمقراطي، ونجح في الوصول إلى السلطة عام 2009 دون أن ينجح في الاحتفاظ بها، إذ تعرض مؤسسه الذي أصبح رئيسا للوزارة بعد الانتصار الكبير، إلى فضائح مالية وأخلاقية أخرجته من الحكم.

وإثر ذلك نشبت خلافات كبيرة بين رموزه الكبيرة على خلافته، أدت إلى تبديل ستة رؤساء وزارة خلال السنوات الثلاث الماضية. وتراجعت شعبية الحزب إلى الحدود الدنيا، وبات واضحا أن تأخير إجراء الانتخابات البرلمانية لن يغير من النتائج المعروفة سلفا لدى غالبية اليابانيين.

دلت استطلاعات الرأي في اليابان، وهي بالغة الدقة، على أن الحزب الديمقراطي الحاكم سيمنى بهزيمة قاسية، وأن الحزب الليبرالي الديمقراطي سيعود بقوة إلى إدارة الحكم في اليابان. وتوقعت وسائل الإعلام تزايدا كبيرا في عدد مقاعد حزب الوسط الذي يمثله حاكم طوكيو السابق، إيشيهارا، وحاكم أوساكا الحالي، هاشيموتو.

جرت الانتخابات وفق قانون الاقتراع حسب الدائرة الفردية بنسبة 300 مقعد، وحسب التمثيل النسبي 180 مقعدا. وبلغت نسبة المقترعين في الحالتين قرابة 69%، وجاءت النتائج مطابقة للتقديرات العلمية، فنال الحزب الليبرالي الديمقراطي 294 مقعدا، مقابل 118 في البرلمان السابق، وبزيادة 176 مقعدا.. ونال حليفه الدائم، حزب الكوميتو الجديد ذي التوجه البوذي، 31 مقعدا، بزيادة عشرة مقاعد عن البرلمان السابق. وتراجعت مقاعد الحزب الديمقراطي الحاكم من 233 مقعدا في برلمان 2009، إلى 57 مقعدا فقط في برلمان 2012.

وتراجعت مواقع حليفه الرئيسي "حزب يابان الغد"، من 53 مقعدا إلى تسعة مقاعد. ونال حزب الوسط أو حزب النهضة (اليابان إيشين) بقيادة تحالف إيتشيهارا وهاشيموتو، 54 مقعدا في برلمان 2012، بزيادة كبيرة عن برلمان 2009 حين كان يحتل 11 مقعدا.

وبسبب الاستقطاب الحاد بين الأحزاب الثلاثة وحلفائهم الذين جمعوا 436 مقعدا من أصل 480، فإن الأحزاب الصغيرة تراجعت بشكل حاد، وتراجع معها عدد المستقلين إلى خمسة مقاعد فقط. فنال "حزبكم" 11 مقعدا، وحزب "اليابان الغد" 9 مقاعد، واحتفظ الحزب الشيوعي بثمانية مقاعد بعد أن كانت تسعة في الانتخابات السابقة، وتوزعت الأحزاب الصغيرة 23 مقعدا.

شكلت انتخابات 2012 ضربة قوية للحزب الديمقراطي في اليابان، الذي يواجه خطر التفكك بعد الهزيمة القاسية التي مني بها. في المقابل، أعطت الانتخابات الجديدة فرصة ثمينة للحزب الليبرالي المعارض، لكي ينتقم لهزيمة 2009 ويعود بقوة إلى إدارة الحكم في اليابان، وبدأ الاستعداد الفوري لتولي رئاسة الحكومة وتشكيل حكومة جديدة، والعمل على استعادة مجلس الشيوخ الذي يتكون من 242 مقعدا، إذ يسيطر الحزب الديمقراطي فيه على 88 مقعدا، بالإضافة إلى قوى حليفة له تعطيه الأغلبية، في حين يحتل الحزب الليبرالي الديمقراطي 83 مقعدا، ويحتل حليفه حزب الكوميتو الجديد 11 مقعدا.

 ومن المتوقع أن تكون معركة استعادة السيطرة على مجلس الشيوخ، أولى الخطوات العملية المباشرة التي يسعى إليها الحزب الليبرالي الديمقراطي، لتحقيق انتصار مضمون بعد تسلم "آبي" رئاسة الحزب والوزارة.

أفرزت انتخابات 2012 خارطة جديدة للأحزاب السياسية في اليابان، فقد استعاد الحزب الليبرالي الديمقراطي موقعه القوي لإدارة دفة الحكم، بتعزيز التحالف الثابت مع حليفه حزب الكوميتو الجديد. وتضعضعت مواقع الحزب الديمقراطي وبات مصيره ضبابيا، وقد ينتهي على غرار الحزب الاشتراكي السابق.

وصعد إلى الواجهة حزب النهضة بصفته حزبا وسطيا، لكنه الأكثر تطرفا في مجال الدعوة إلى إحياء القومية اليابانية المتشددة في مواجهة الصين، وقد يسبب إحراجا متواصلا للحزب الليبرالي الديمقراطي فور تسلمه السلطة، لأنه يطلق شعارات متطرفة، فهو يدعو إلى يابان قوية وجميلة، ويشدد على الإصلاح التربوي، والدفاع عن جزر سينكاكو المتنازع عليها مع الصين، ويدعو إلى تقوية الجيش الياباني، وإخراج اليابان من موقع الدولة القوية اقتصاديا والقزم سياسيا وعسكريا.

وهو يستعيد تسميته ومقولاته السياسية من عهد الإمبراطور "مايجي" وحلفائه، والتي قادت إلى تعزيز النزعة القومية اليابانية وأدخلت اليابان في حروب دموية مع دول الجيران.

ختاما، إن عودة الحزب الليبرالي بنسبة كبيرة من المقاعد، تسمح لرئيس الوزراء الجديد بالتصدي لتزايد النزعة القومية في الداخل، ومواجهة الدعوة العلنية لما يسميه حزب النهضة بالأطماع الصينية في الدول الآسيوية المجاورة. ويعرف رئيس الوزراء "آبي" جيدا أن الانجرار وراء الدعوة القومية المتطرفة يضر بمصالح اليابان على المستويين الإقليمي والدولي، ويحدث انقساما حادا داخل اليابان. وذلك يتطلب متابعة دقيقة لسياسة رئيس الوزراء الجديد، في مواجهة التحديات الداخلية والإقليمية المتزايدة.

 

Email