سوف يكون على قارئ المشهد العراقي أن يأخذ بفضيلة الصبر، وهو يمضي في الملاحظة، فإنه وقتئذٍ، بإزاء مشهد تحكمه قوانين جيوستراتيجية لا قبل له بها، ذاك أن واقع الحال هو من التركيب والتعقيد، والتداخل، والمفارقة، بما يجعل حاضر العراق ومقبله مفتوحين على أسئلة تأسيسية تتصل بدول الجوار، مثلما تتعلق بتواصل وثيق مع المنظومة الإجمالية التي تحكم العلاقات الدولية. كل ما في الصورة يجري مجرى التحول والتبدل وعدم الثبات.

فلقد أدرك الغرب، بأميركييه وأوروبييه، ناهيك عن بقية العالم، حقيقة أن الحرب التي بدأت بقرار لم تنته بقرار، وأن التاريخ الذي شُنَّتْ الحرب عليه بوصفه تاريخ صدام حسين، لم ينته بانتهاء الأخير إلى منصة الإعدام. أما الجغرافيا التي قيل إنها استبيحت وهُزِمَ أهلها، فلم تلبث حتى عادت تستنتج قوانين جديدة في الصراع على المعنى، وكذلك على التاريخ والسياسة والأمن والاقتصاد والاجتماع.

ذلك يعني، تبعاً لهذه الحقائق، أن المؤثر الجيوستراتيجي المحيط بالعراق، هو عامل أساس في تحديد الاتجاهات والخيارات المتخذة على الصعيد الوطني الداخلي، أو في ميدان العلاقات الدولية. ومن البديهي أن تأخذ هذه الفرضية وتيرة مضاعفة في مناخ داخلي وإقليمي ودولي، ينطوي على سمة انتقالية شديدة الحساسية والتعقيد.

أما صورة المؤثر الخارجي، فقد برزت كفاعل حاسم في رسم الهندسة الإجمالية للسياسات المعتمدة داخل دول الإقليم، حتى إذا انفجرت التحولات بعدد من دول المشرق العربي ومغربه، مع بداية عام 2001، كانت أدنى إلى اختبارات تطبيقية للمدى الذي بلغه التأثير الجيوستراتيجي في الكيانات الوطنية.

لا ينأى العراق من هذه القاعدة، بل قد يكون هو الصورة المثالية لجدلية التأثر والتأثير بين الحالة الوطنية، وحالتي الإقليم والعالم، إلى درجة أن غراهام فولر، وهو أحد أبرز استراتيجيي الأمن الأميركيين، رأى الوضعية العراقية على أساس كونها حالة استثنائية في منطق الجغرافيا السياسية.

وقد جاء كلامه لافتاً، في معرض معاينته لجذرية الوطنية العراقية في التعامل مع الاحتلال، ملاحظاً أنّ الشيء الذي لا تستطيع أن تقوم به أية قوة احتلال، هو منع القوانين الجيوبوليتيكية للعراق من القيام بدورها. فهذا البلد (في رأيه) «لن يتوقف عن كونه العراق، حتى بعد رحيل حاكمه الدموي».

ما يميز الصورة العراقية الآن، هو انحكامها إلى ثلاثة مؤثرات تدفعها على الدوام نحو مواجهة الاستحقاق الأعظم، وهو القلق المقيم على الأمن القومي واستقرار المجتمع والدولة.

المؤثر الأول: حروب الاستنزاف الدموية المفتوحة على الدولة والمجتمع والوحدة الوطنية.

الثاني: موجات الاحتواء السياسي المتواترة على النظام، ومؤسسات الحكم. والغاية منها على الجملة، هي الحؤول دون تمكين عراق ما بعد الاحتلال من الاستقلال بموقعيته السيادية.

الثالث: احتدام دولي إقليمي يترجم بالصراع على الإقليم، ويعكس في وجه من وجوهه استئنافاً لحرب باردة من نوع جديد.

يسري هذا بموازاة رهانات استراتيجية للعراق، لا تنفك تظهر معالمها مع تقادم الزمن السياسي وكثافته. ومن أظهر هذه المعالم، التساؤلات التي تنعقد اليوم حول إمكان تطور موقعية العراق الجيوستراتيجية، ليكون القطب العربي الأكثر أهلية للعب دور محوري، في عمليات الاستقطاب وأنظمة الأمن والسياسات الاستراتيجية والاقتصادية في المنطقة.

لكن هل يستطيع العراق، تحت ظل فوضاه السياسية والأمنية، أن يبلغ تلك الموقعية؟ لا تغرب عن وعي النخب العراقية مسألة الانتماء الوطني، بما هي مسألة تأسيسية لعراق ما بعد الاحتلال. ولي أن أمضي إلى ما يمضي إليه جمع وازن من النخب، لجهة أن الدولة كناظم دستوري سياسي وأمني، تبقى المآل الأخير لأي مشروع يعيد إنتاج الهوية الوطنية الجامعة.

فما فعله الاحتلال الأميركي، كمثل ما يفعله أيُّ احتلال، هو تحويل الوضع الجيوبوليتيكي للبلاد إلى ما هو أشبه بمستوطنات تتوزعها أعراق وطوائف متناحرة، جاعلاً بنيَته الديمغرافية أحياء مغلقة تقطنها جماعات مسكونة بالخوف والهلع والتوجس.

لقد شكّلت حقبة الاحتلال تمثيلاً نموذجياً للنكوص المجتمعي في اتجاه الهويات الفرعية، كما أفلح المحتل في عمليات التفكيك على قاعدة الوهن الذي حلَّ على البنية العراقية منذ ما سمي بـ «حرب الخليج الأولى» 1991.

أما الطور التالي من الغزو الشامل للبلاد في عام 2003، فقد كان من شأنه أن يضاعف من الصدع البنيوي الذي سيضرب الدولة والمجتمع، على نحو متوازٍ ومنهجي في الآن عينه. ولئن كان ثمة من باب يُفتح على التفاؤل، فهو في ما انتهى إليه سقوط الديكتاتورية ورحيل الاحتلال، من حقائق وتبدلات. نشير في هذا الخصوص إلى أن تحرر الحالة العراقية الجديدة من الواحدية الإيديولوجية، سوف يتيح لمنظومة الحكم الجديدة منفسحاً تكون فيه مركز جاذبية لسائر الإيديولوجيات المشاركة في السلطة.

ولا تتوقف حسنات التحرر من الواحدية الإيديولوجية عند هذا الحد، بل تمتد لتعين سلطات الدولة على توفير التواصل بين أقطاب وتكوينات الكثرة العراقية، بتنوعاتها القومية والدينية والسياسية والإيديولوجية. ورغم ما يظهره السجال الداخلي حيال مساوئ الدستور ومواطن الوهن فيه، فهو يظل إطاراً مرجعياً ضرورياً لتوفير مستلزمات الانتقال إلى وضعية مستقرة.

تستطيع النخبة التاريخية العراقية، لو أفلحت في القيام بمهمتها التنظيرية تلك، أن تقدم نموذجاً للدولة والحكم والمجتمع السياسي، لم يسبق أن توفَّر له نظير في دولة عربية من قبل، إذ بهذا النموذج الذي ينبغي للنخب العراقية بذل الجهد لإنجازه، يسوِّي مشكل تكويني مزمن داخل البناء الجيوبولتيكي لمعظم دول المشرق، وهو المشكل المتمثل بصيرورة الدولة معادلاً ونظيراً للحاكم الفرد.

فالدولة المدنية تؤسس لسياق آخر، ولزمن جديد، بحيث لا يعود المدى الوطني الداخلي، بمجالاته السياسية والاجتماعية والثقافية والمعرفية، مجرد كهف مغلق يلغي التنوع، ويقيم الحد على كل غيرية واختلاف.

قد تكون صياغة السؤال الوطني العراقي من هذا المحل بالذات، أي وعي جدلية الوحدة والتنوّع كضرورة تاريخية للتأسيس لتلك الموقعية، التي تنتظر عراق ما بعد الاحتلال.