صناديق الاقتراع

ت + ت - الحجم الطبيعي

يعبّر السياسيون وقادة الأحزاب والناشطون في التيارات السياسية والاجتماعية العربية، عن رغبتهم في اللجوء إلى صناديق الاقتراع، سواء لاختيار ممثليهم أو لإقرار قضية وطنية كبرى، باعتبار أن صناديق الاقتراع هذه هي المعيار الحقيقي لمعرفة رأي الشعب وقراره النهائي.

من حيث المبدأ، من الصعب الشك في أحقيتهم في هذا الاعتقاد، ذلك أن صناديق الاقتراع هي معيار جدي وأقل خطأ من أي معيار آخر لمعرفة رأي الناس واختيارهم، وهي الرائز الأكثر دقة من غيرها. ولكن اللجوء إلى صناديق الاقتراع ليس عملية طارئة ومستعجلة ووحيدة الجانب، وإنما تقع في سياق واسع ومعقد من الإجراءات والترتيبات السابقة لها.

فلا بد عند اللجوء إلى صناديق الاقتراع، من تنفيذ عمليات أخرى عدة، منها ضرورة وجود أحزاب وتيارات سياسية معترف بها وعلنية ومسموح لها بالعمل بين صفوف الناخبين لإقناعهم بوجهات نظرها، ووجود منظمات مجتمع مدني غير حكومية، ونقابات مهنية وشعبية تقوم بدورها الاجتماعي والثقافي وربما الاقتصادي، فضلاً عن ضرورة إتاحة الفرصة لهذه الأحزاب والتيارات والمنظمات، لاستعمال أجهزة الإعلام لنشر برامجها والإقناع بها، وبطبيعة الحال من الضروري إطلاق المحاضرات والحوارات بين الناس، وعقد الاجتماعات الجماهيرية والمسيرات، وكل ذلك بهدف المساهمة في توعية الناخبين، بل وإعادة تشكيل وعيهم، من خلال تعريفهم باستراتيجياتها وأهدافها ومواقفها وأساليب عملها وغير ذلك، ليستطيع الناخب من خلال هذه العمليات كلها أن يحسن الاختيار من جهة، وأن يحاسب المرشح (إذا كانت الانتخابات نيابية) إذا لم يحقق برنامجه أو إذا حاد عن هذا البرنامج من جهة أخرى. وفي الحالات كلها، ليستطيع اتخاذ قراره واختيار ما يتناسب مع رأيه ومصالحه.

إن هذه الشروط الواجب توافرها، تقتضي أن تبدأ عملية الاقتراع فعلياً قبل مدة من يوم التصويت، لتكون هناك فرصة كافية لصاحب مشروع الاقتراع ليعبر عن نفسه ويشرح وجهات نظره، وللناخب كي يستوعب مضمون الاقتراع ويتخذ قراره. ومن غير الصواب والحكمة أن يكون الاقتراع فورياً دون هذه المقدمات التي لا بد منها، لأنه في هذه الحالة يمكن أن يُفسح مجال كبير للخداع والاستخفاف بالناخب والمراهنة على جهله، وتوظيف وسائل الإعلام والاتصال توظيفاً غير عقلاني لتحقيق النتائج التي يريدها من يستخدم هذه الوسائل.

وهكذا فإن الاقتراع (إذا كان لانتخابات نيابية أو ما يماثلها) عملية غير آنية وممتدة وطويلة الأجل، وتحتاج بالضرورة إلى وقت كاف للحوار وتبادل الرأي والحراك الاجتماعي والنشاط الجماهيري، وطرح واقع المجتمع ومصالحه وحاجاته ليستقيم أمر الاقتراع ويحقق غايته.

لاحظنا أن الاستفتاء على الدستور المصري الجديد الذي يجري هذه الأوقات، تقرر حصوله قبل أيام من يوم التصويت، كما لاحظنا من خلال ما عرضت وسائل الإعلام والاتصال، أن قسماً كبيراً من الناخبين المصريين لم يقرأ الدستور، ومطلوب منه أن يبدي رأيه فيه دون أن يقرأه أو يطلع عليه أو يعرف محتوياته، ولم يحضر نقاشاً أو حواراً حوله، رغم أن هذا الدستور سيكون ذا تأثير حاسم في تاريخ مصر المقبل وفي تطور المجتمع المصري، وفي العلاقة بين فئاته الاجتماعية والسياسية والطبقية، وتحديد بنية الدولة وهيكليتها. وقد اعتمد الناخب المصري في اختياره، على خطاب عابر أو تأثير من صديق أو كلمة من سياسي، أو تأثر بتيار شعبي جارف أو بصورة بثها التلفزيون أو غير ذلك، وهذه كلها لا تكفي عملياً لمساعدة الناخب على حسن الاختيار. وعلى ذلك فمن المشكوك فيه أن تكون نتائج التصويت معبرة فعلاً عن رأي الشعب المصري، مع أنها نتيجة لصناديق الاقتراع، ذلك أن عملية الاقتراع كانت عملية ناقصة ومبتسرة ومتسرعة وغير مستوفية شروطها.

نلاحظ أن تحول المجتمعات في عالمنا المعاصر من الأنظمة الشمولية إلى الأنظمة الديمقراطية، يبدأ بعمليات اللجوء إلى صناديق الاقتراع بتسرع، سواء لانتخاب ممثلين للشعب أو للمشاركة في الاستفتاء على دستور أو قانون، وهذا ما شاهدناه في بلدان أميركا اللاتينية، وذلك أن الذين قاموا بتحويل المجتمع الشمولي إلى مجتمع ديمقراطي، يتسرعون عادة في تطبيق الإجراءات الديمقراطية ليثبتوا مصداقيتهم. وقد لوحظ أن عمليات التصويت هذه في معظم البلدان التي طبقتها، لم تكن معبرة بدقة عن آراء الناس واختيارات الجماهير الشعبية، لأنه لم تتح الفرصة لأبناء المجتمع لمعرفة الأحزاب وبرامجها وأهدافها (خاصة وأن معظمها كان ممنوعاً)، ولم تشارك فيها منظمات المجتمع المدني (التي كانت بدورها ممنوعة أيضاً)، ولا المنظمات الشعبية والمهنية التي كانت محدودة النشاط العام في ظل الأنظمة الشمولية، كما لم يتح استخدام وسائل الإعلام لجميع أصحاب الرأي للإقناع بآرائهم. وفي الخلاصة، كانت النتيجة مشوهة وغير دقيقة، ولا تعبر بامتياز عن رأي الجماهير ومصالحها.

ينبغي الاعتراف بأن عملية الاقتراع وصناديقها هي أفضل السبل للسير في الطريق الديمقراطي، لكن ينبغي الانتباه أيضاً إلى أن هذه العملية تحتاج إلى اعتراف مسبق بقيم وموازين ثابتة، منها الحرية والديمقراطية والتعددية وتداول السلطة وغير ذلك من معايير الدولة الحديثة، كما تحتاج إلى وقت مناسب لحوار التيارات الشعبية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ومشاركة الناخبين في هذا الحوار، بحيث تستكمل العملية الديمقراطية أبعادها وتنضج نضجاً كافياً يوصل إلى النتيجة المرجوة. فالعملية، إذاً، ليست مجرد تصويت ووضع أوراق في صناديق الاقتراع، بل هي أشمل وأكثر تعقيداً من ذلك، وتقتضي مقدمات وإجراءات ونشاطاً وعمليات تجري قبل يوم الاقتراع. هكذا إذاً، ينبغي ألا نُفتن بتعبير اللجوء لصندوق الاقتراع، دون أن ندرك أن عملية الانتخاب هي جزء في سياق عملية ديمقراطية كاملة، لا تعطي نتائجها إلا إذا تم استكمالها.

 

Email