مصر في القلوب

ت + ت - الحجم الطبيعي

لا أبالغ إن قلت إنني تسمرت ساعات طويلة أمام الشاشة الأيام الفائتة، لمتابعة ما يجرى في مصر، قبيل استفتائها على الدستور، وأثناء التصويت عليه، وبعد ظهور نتائج المرحلة الأولى. وها أنذا أواصل متابعتي للشأن المصري وما يجري على أرض الكنانة، انتظاراً للجولة الثانية وما يجري حولها من نقاشات، وما سيجري أيضاً بعد أن يسدل الستار عليها.

 وظني أنني لست الوحيد على هذه الحال، فالسواد الأعظم من مثقفي البلاد العربية يهمهم ما يدور في مصر هذه الأيام، إذ هي سترسم معالم الطريق، ليس لمستقبلها هي وحدها، بل وربما لمستقبل عموم المنطقة.

فثقل مصر ذات الثلاثة والثمانين مليوناً من السكان لا يمكن إنكاره، وأهميتها الجيوسياسية أمر لا يحتاج إلى برهان، وثورتها وما هي آخذة بالتمخض عنه، ذات أثر يتعدى بكثير حدودها، وفوز الجماعات الدينية وعلى رأسها الإخوان المسلمون وحكمهم لمصر، ستكون تجربة ونموذجاً لغيرها من الجماعات الدينية في عالمنا الإسلامي الواسع، علماً بأن جماعة الإخوان المسلمين قد نشأت في مصر في أوائل القرن الماضي، وبالتالي فإن امتحانها للنجاح في عقر دارها، سيكون امتحاناً أصعب من ذلك الذي ستواجهه فروعها في بلاد الثورات العربية.

فعدد سكان مصر كبير، وهم يتزايدون بمقدار المليون سنوياً، ومحشورون في وادي النيل، الذي هي هبته. ونسبة كبيرة من هؤلاء (الثلث تقريباً) هم دون الخامسة عشرة، بمعنى أنهم فئة غير منتجة من ناحية، ومن ناحية أخرى بحاجة إلى خدمات مثل التعليم.

فضلاً عن ذلك، فإن حوالي 12% من قوتها العاملة تشكو البطالة. والأمر من ذلك هو أن 20% من مواطنيها يعيشون تحت خط الفقر. وربما يكون هذا غيضاً من فيض ما تعاني منه مصر هذه الأيام. وهذه لا شك تركة ثقيلة يرثها الجيل الحالي، من النظام البائد.

غير أن إمكانيات مصر أيضاً عظيمة في المقابل. فهي بلد مترامي الأطراف، فمساحتها أكثر من مليون كيلومتر مربع. ولها شواطئ تمتد قرابة ألفين وخمسمئة كيلومتر، فضلاً عن شواطئ النيل العظيم. وأرضها مليئة بالآثار على طول القطر وعرضه، ومناخها معتدل في معظم أيام السنة.

وهي محظوظة لأنها لا تستورد النفط، بل لها كفايتها منه (تنتج أكثر من 700 ألف برميل يومياً)، فضلاً عن إنتاجها لواحد وستين مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي في السنة، وهو ما يفوق احتياجاتها وبالتالي تقوم بتصدير جزء منه. وهي تمتلك مصدراً للطاقة الكهربائية الرخيصة من السد العالي. ولا حاجة بنا إلى ذكر أراضيها الخصبة المزروعة، أو تلك التي يمكن استصلاحها.

إذاً، عناصر النهضة الاقتصادية وتحسين المستوى المعيشي للشعب المصري متوافرة. فاليد العاملة موجودة، ومصادر الطاقة الكهربائية وغيرها سهل الحصول عليها، والأرض شاسعة، والسوق أيضاً كبيرة.

وهذه كلها عناصر جاذبة للاستثمار المحلي والأجنبي في مجالات الزراعة والصناعة، وربما استخراج المعادن. أما المجال السياحي فهو متطور، لكنه قابل للتوسع أكثر بكثير مما هو عليه الآن، وبالتالي جذب أضعاف ما يأتي لمصر من ملايين السياح حالياً.

فهل الإسلاميون، وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين، يمتلكون القدرة والرؤية لمواجهة هذا التحدي، واستثمار نقاط القوة المتوافرة لصالح المشروع النهضوي؟! الحق أنني كنت متفائلاً في أول الثورة، وكنت أمني النفس بأن هذه القوى ستوجه طاقة الدين إلى الناحية الإيجابية، ناحية العمل والإتقان وإزالة مخاوف الآخرين منهم، وغيرها من النواحي الإيجابية التي تبث الطمأنينة في النفوس، والتي تنعكس سريعاً على تطور المجتمع.

غير أن ما رأيته في الأيام الأخيرة جعلني أعيد النظر في مستقبل مصر تحت حكم هؤلاء. فالنهضة والانطلاق بحاجة إلى الهدوء والسكينة والاستقرار، وهي تمثل العامل الأول الجاذب للاستثمار والتنمية.

والاستقرار بحاجة إلى «توافق وطني» تجلى واضحاً أثناء الثورة، حيث ناضلت جميع القوى للتخلص من العهد البائد، وكان من المأمول أن يستمر ذلك التوافق لينعكس في الدستور. غير أن الرياح جرت بما لم تشتهه قوى شعبية أساسية كانت لها اليد الطولى في الثورة، وظهرت نزعة الإخوان والجماعات الملتفة حولها، في الاستفراد بالسلطة، وهو ما سيدخل مصر في طريق مسدود.

 

Email