الانقسام العمودي يهدد لبنان

ت + ت - الحجم الطبيعي

لم تشهد الحياة السياسية في لبنان هذا النوع من تقاعس السياسيين عن أداء واجباتهم، سواء من هم في سدة الوزارة أم على مقاعد البرلمان. فبعد اتفاق الدوحة 2008، شهدت الحياة السياسية في لبنان انقساما عموديا غير مبرر، بين المعارضة والموالاة، وبات الجانبان يتبادلان الأدوار في تعطيل المؤسسات التنفيذية والتشريعية.

وحين يستلم أحد الفريقين مقاليد الحكم، يسارع الفريق الآخر إلى تعطيل مؤسسات الدولة. فارتبك القضاء، وتحولت قوى الأمن إلى إطفائية لوأد الفتن الطائفية والمذهبية، المتنقلة من منطقة إلى أخرى. وتزايد الفساد بشكل مريع في أجهزة الدولة، في ظل غياب أي حسيب أو رقيب. وانتشرت عصابات السطو المسلح على البنوك، والمؤسسات العامة والخاصة، بالإضافة إلى المواطنين العاديين.

 ليس من شك في أن رفض الحوار مع الآخر المختلف داخل الوطن الواحد، يندرج في خانة العداء للديمقراطية، فكيف الحال إذا كان رفض حوار مقترح من رئيس الجمهورية لتجاوز هذا النوع الرديء من الانقسام بين الموالاة والمعارضة؟ علما أن هذا الأسلوب قد اعتمد في الماضي، ويمكن تكراره ما لم يوضع حد لهذه المهزلة غير المسبوقة في تاريخ الديمقراطية.

إن رفض الحوار في الحالة اللبنانية الراهنة، هو تعطيل مقصود للحياة الديمقراطية، وتعطيل لمؤسسات الدولة، وهروب من التوافق على قانون جديد للانتخاب ينصف جميع القوى السياسية، بدل العودة إلى قانون 1960 الذي يعيد إنتاج كتل برلمانية كبيرة، تستمر في تجديد الأزمة السياسية في لبنان لسنوات إضافية.

اللافت للنظر أن هذه المهزلة السياسية بين الموالاة والمعارضة، مستمرة في ظروف تكاثر الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الضاغطة على اللبنانيين، الذين وحدوا صفوفهم بصورة غير مسبوقة في تاريخ لبنان، فنظموا إضرابات شعبية، حظيت بتأييد نسبة عالية جدا من الإداريين، والمعلمين، والموظفين، والعمال، والأجراء، وكثير من الشرائح الاجتماعية التي تطالب بالحقوق الأساسية المشروعة لقطاعات واسعة من اللبنانيين.

لقد بني النظام السياسي اللبناني المعاصر على مبادئ التعددية الطائفية، وفق صيغة توافقية لتقاسم المقاعد النيابية والمراكز العليا في الدولة، مناصفة بين المسيحيين والمسلمين. فتحول النظام السياسي اللبناني بالممارسة العملية إلى نظام مذهبي بالكامل، بعد أن فشل في بناء الوحدة الداخلية على أسس وطنية لا طائفية، وعجز عن تحصين لبنان من التدخلات الإقليمية والدولية المستمرة.

وتحت وطأة نزاعات داخلية مدعومة من قوى إقليمية ودولية، بدأت ركائز الدولة اللبنانية تنفكك تدريجيا، وباتت دوائر الدولة ومؤسساتها ملحقة بزعماء الطوائف، الدينيين والمدنيين، فدخل لبنان في دائرة النزاعات الإقليمية والمشاريع التي تم التحضير لها لإقامة الشرق الأوسط الجديد.

فانفجرت الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، وما زالت نتائجها السلبية مستمرة حتى الآن، بعد أن طالت جميع المناطق والطوائف اللبنانية، وهزت ركائز الدولة، وجيشها، ومؤسساتها.

وما زال لبنان أسير زعماء الميليشيات السياسية بأبعاد مذهبية، وهم يتوزعون الولاء على دول إقليمية. نخلص إلى القول إن الحكومات اللبنانية المتعاقبة لم تستخرج الدروس اللازمة من النزاعات المستمرة في تاريخ لبنان، ففشلت في بناء دولة عصرية على قاعدة اتفاق الطائف، ثم على قاعدة اتفاق الدوحة، وكلاهما منع تفجير الساحة اللبنانية مجددا، لكنه فشل في بناء وحدة وطنية جامعة.

وزعماء الموالاة والمعارضة وجهان لعملة واحدة، من حيث التجاذب السياسي الذي يعطل نظام الحكم، وكلاهما يبحث عن تحقيق مصالح شخصية أو حزبية أو طائفية ضيقة، على حساب الدولة ومؤسساتها.

وعملت خلافاتهم المستمرة ،على توليد أزمات داخلية متفاقمة على أسس مذهبية. وقد أودت بحياة عدد كبير من اللبنانيين في معارك سياسية وهمية، لتحديد أوزان زعماء الطوائف والميليشيات السياسية في لبنان.

وبات واضحا أن صيغة تحالف زعماء الطوائف المتناحرة التي حكمت لبنان منذ اتفاق الدوحة، أدت إلى استمرار تعطيل نظام الحكم فيه، فأفقدت المواطن اللبناني ثقته بإمكانية قيام دولة لبنانية عصرية، بعد أن عززت ولاء اللبنانيين كرعايا يتبعون مباشرة زعماء طوائفهم، على حساب ولائهم لدولة فشلت في التعاطي معهم كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات.

وتراجع دور الحكومات الوفاقية على خلفية اتفاق الدوحة، ولم يعد شعار "حكومة كل لبنان" يشير إلى الوحدة الوطنية، لأن الوفاق الوطني مفقود، والحكومة منشغلة في إدارة الأزمات والتناقضات المستعصية داخلها.

ومع غياب الوفاق الوطني الذي يحصن الساحة الداخلية في لبنان من التدخلات الإقليمية والدولية، بات الحكم معطلا والحكومات لا تحظى بإجماع وطني. ودخل السياسيون في نقاشات عقيمة استغرقت جلسات طويلة في لجنة الحوار الوطني، دون أن تصل إلى نتائج محددة حول سلاح مضمون الاستراتيجية الدفاعية في لبنان.

وباتت الحياة السياسية في لبنان اليوم تفتقر إلى الوحدة الوطنية الجامعة، التي تحمي مصلحة لبنان العليا، رغم اختلاف المواقع وتباين الآراء السياسية.

ولا بد من تقديم تنازلات متبادلة لحماية الوحدة الوطنية، والسيادة، والاستقلال، ومواجهة التهديدات الإسرائيلية اليومية. لبنان اليوم في قلب النزاعات الطائفية والمذهبية المحلية، والتجاذبات الإقليمية والدولية التي تهدد مستقبل لبنان واللبنانيين.

وزعماء الطوائف والميليشيات السياسية مستمرون في المقاطعة المتبادلة، التي عطلت مؤسسات الدولة، التنفيذية منها والتشريعية. وهم حريصون على إبقاء رعاياهم أسرى الغرائز الطائفية والمذهبية، ويحركونهم بالمال السياسي.

وذلك يتطلب التوقف عن المقاطعة غير المبررة في الحياة السياسية، والتوافق على قانون جديد للانتخاب يشكل مدخلا حقيقيا للتنمية السياسية المستدامة، وتأسيس أحزاب وطنية جامعة، والقيام بإصلاحات إدارية وتربوية واقتصادية واجتماعية شاملة، وبناء نظام سياسي جديد ينمي الانتماء إلى الوطن.

ختاما، يواجه لبنان اليوم خطر الانزلاق نحو صراع مذهبي، بعد فشل نظامه السياسي الطائفي في بناء دولة عصرية على أسس ديمقراطية سليمة، وتعاني مؤسسات الدولة وإداراتها من شلل شبه كامل على جميع المستويات. وبات واضحا أن الذهنية المذهبية الميليشياوية لدى زعماء السياسة في لبنان والملحقين بهم في مؤسسات الدولة، هي الشكل الملائم لنشر ثقافة الفساد والإفساد، والاستزلام وإفشال جميع محاولات الإصلاح السياسي والإداري، وفي طليعتها عدم التوافق على قانون جديد للانتخابات طوال أربع سنوات.

 

Email