من غير الجائز بعد واقعة غزّة، أن يُنظر إلى حالة إسرائيل الجيواستراتيجية، على النحو الذي كان ينظر إليها من قبل. فسيكون ختام الشهر الحادي عشر من العام 2012، علامة فارقة في نظرية الأمن التي صاغها العقل الإسرائيلي على امتداد ستة عقود ويزيد. والسؤال هو: ماذا لو بلغت إسرائيل حداً لا تعود معه تستطيع احتلال أرض هي بالنسبة إليها محل تهديد لأمنها القومي؟

هذا السؤال لم يعد يُطرح بين الإسرائيليين على سبيل الافتراض، إنما يدخل اليوم الطبقات العميقة في النقاشات الفكرية والاستراتيجية، بل إلى الدرجة التي بات معها التساؤل شديد الوطأة في جدوى وواقعية طائفة واسعة من الثوابت والمفاهيم. لدينا في سياق الجواب على التساؤل السابق، ثلاثة منعطفات تأسيسية متقاربة في الزمن، وهي لن تفارق النفس الإسرائيلية بيسر: الأول حرب لبنان في تموز (يوليو) 2006، والثاني حرب غزة في مستهل العام 2009، والثالث الحرب الأخيرة على غزة وما لها من تداعيات جيواستراتيجية على الأمن القومي الإسرائيلي.

 المنعطفات الثلاثة ذات بعدٍ واحد، وهي تبتعث كلاماً يتعدى مقام السياسة والحرب، إلى الحد الذي يبدو فيه العقل الإسرائيلي متجهاً إلى مطارحات وأسئلة تتعلق بمصير المشروع التاريخي لإسرائيل برمته. المشترك في هذا المثلث التاريخي، أنه يخلق حالاً من عدم اليقين حول قدرة إسرائيل على إعادة تشكيل مقولة الاحتلال.

ثمة إذاً، مجالان جغرافيان استَعصَيَا على الاحتلال، خلال مسافة زمنية مكثَّفة ومحدودة. فإذا كان السؤال الاستراتيجي الإسرائيلي اليوم مركوزاً في وجوب تحقيق معنى القدرة على احتلال الأرض، فإن حاصل المبادرات الحربية في لبنان وفلسطين، عمَّق اتجاهات الشك في الجدوى التاريخية لأطروحة الاحتلال.

علماء الاجتماع وجنرالات الحرب السابقون والحاليون في إسرائيل، يواجهون اليوم طوراً جديداً وغير مألوف من الأسئلة. أبرزها ما ينعقد في نطاق الكلام على الفراغ الحاصل في البنية الإجمالية للتفكير الاستراتيجي، خصوصاً ما يتصل منها بفاعلية خيار الاحتلال في تجديد وصيانة أحزمة الحماية الجيواستراتيجية لإسرائيل في مطالع القرن الحادي والعشرين.

ما الصورة التي رست عليها الأحوال الإسرائيلية بعد ثلاثة حروب متجاورة في الزمان والمكان، وانتهت إلى إخفاقات مدوية في مفاهيم الحرب واحتلال الأرض؟

يُنظر إلى مقولة الاحتلال، من زاوية نظر اللاهوت السياسي الإسرائيلي بما هي مقولة تاريخية مركَّبة. فالاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية، هو دون سواه من أشكال الاحتلال، ظاهرة استثنائية. ففي منطقه الداخلي ودينامياته، وفي مقاصده الأيديولوجية والجيواستراتيجية، بدا غير محكوم بقواعد اللعبة التقليدية، التي تنتظم خلافات الحدود والنزاع على الأرض بين الدول. ولئن بحثنا في الخطاب السياسي والأيديولوجي في إسرائيل، عن ثوابت ما، ولا سيما لجهة ظهورات الهوية الجغرافية والدستورية، فلن نعثر عليها بيسر.

سوف يحملنا ذلك إلى القول، إنَّ عدم الاستقرار في الهوية الجغرافية هو سمة وجودية للدولة. فإلى كونه يلبّي حاجة لاهوتية إيديولوجية، فهو يمنح إسرائيل شحنة من الذرائع، في طليعتها توظيف عامل الاحتلال للإبقاء على مبدأ التفوُّق الاستراتيجي على العرب.

وإذا كان احتلال الأرض العربية في العام 1967، قد أدخل المقولة الإسرائيلية في ميدان التطبيق الفعلي لمبدأ التفوُّق، فإنَّ تداعيات هذا الاحتلال، خلال الحقب التالية، وصولاً إلى حقبة التفاوض مع العرب في مستهل التسعينيات، أدَّت إلى إعادة إنتاج هذه المقولة بآليات مختلفة.

مع السنوات الأولى من القرن الواحد والعشرين، ستنتقل مقولة الاحتلال كمعادل للإيديولوجي اللاَّمتناهي ومكمِّل له، لتتموضع في منزلة مغايرة للتقليد السياسي الإسرائيلي. ذلك أن الأرض المقتطعة من العرب هي ـ بحسب معايير الأمن القومي الإسرائيلي ـ حلقات انتقالية ضرورية لتحقيق أرض إسرائيل الكبرى، وقاعدة لمساومة سياسية في المفاوضات.

ملامح التطور السلبي في الاجتماع السياسي الإسرائيلي، سوف تأخذ مداها المفتوح. ولقد أظهر الإسرائيليون، على اختلافهم وتنوع تياراتهم، قلقاً بيِّناً أخذ يتضاعف مع الوقت، حيال الآثار الجيوسياسية المترتبة على مقولة "الأرض مقابل السلام"، لأنَّ التراجع عن الأرض حتى لو كان على شكل إعادة انتشار، عُدَّ خرقاً للجدار المعنوي الهائل الذي أقامته الإيديولوجيا الصهيونية حول أطروحة "أرض إسرائيل العظمى".

لقد أطلق السلام، في حيِّزه الإسرائيلي، أسئلة لا قِبَلَ للدولة اليهودية بها. فقد وضعت المفاوضات مقولة الاحتلال على خط المساءلة بين تيارات المجتمعين؛ السياسي والعسكري، في إسرائيل. فقبول إسرائيل الالتزام بقراري مجلس الأمن 242 و338 قاعدة للسلام، يعني نظرياً الالتزام بمبادلة السلام بالأرض؛ أي التخلي عن جغرافيا الاحتلال في الضفة وغزة والجولان وجنوب لبنان، الأمر الذي رفع من حرارة السجال الإسرائيلي إلى مقام الاستراتيجيات العليا. فكان الاصطدام أكيداً وحاسماً بين نظرية الاحتفاظ بالأرض، كمجال حيوي استراتيجي لأمن إسرائيل، وبين نظرية إسرائيل الصغرى.

إنَّ معادلة «التفاوض من أجل السلام»، ولَّدت ما يمكن وصفه بملامح جديدة لقواعد لعبة يبدو فيها منطق الجغرافيا هو العامل المكوِّن والمقرِّر للمشهد الإسرائيلي، خلال العقود الآتية من القرن الواحد والعشرين.

عند هذا المفصل ظهر الخطاب الاستراتيجي في إسرائيل على نشأة جديدة، وعلى هذا النحو انبرى كثيرون ممن يترجمون هذا الخطاب، لفتح باب التشاؤم على مصراعيه حول راهن ومقبل الأطروحة الإسرائيلية. قبل أن يمضي رئيس مجلس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون في غيبوبته المتمادية بسنوات، بكَّر الإسرائيليون في إطلاق السؤال التالي: ما الذي جناه شارون على إسرائيل؟

ربما كان يفترض بهؤلاء ألاَّ يصلوا إلى هذه الدرجة من الشك، وقد منحهم آرييل شارون للتو ما لم يقدر أسلافه كلهم على منحهم إياه، وهو الأمن. لكن حَمَلَة هذا السؤال قفزوا فوق الجدران الوهمية لاستطلاعات الرأي، التي أعطت شارون سواد إسرائيل الأعظم، وراحوا ينظرون إلى ما وراء الضجيج الذي ولَّده ركام المخيمات والمدن الفلسطينية وأشلاء أهلها.

ثمة من الإسرائيليين اليوم من بات يتوقّع الفجيعة الكبرى، والسؤال الذي يطرحونه على أنفسهم هو عمّا إذا كان بمستطاع إسرائيل استعادة قدرتها على احتلال أرضٍ عربية، حتى لو تعلق الأمر بمصيرها كدولة آيلة إلى الزوال!