الجدل البيزنطي

ت + ت - الحجم الطبيعي

بقيت المعارضة السورية منذ بدء الانتفاضة حتى الآن تناور وتداور وتختلف حول وحدتها وبرنامجها وقيادتها، كما اختلف أهل القسطنطينية حول جنس الملائكة إن كانوا ذكوراً أم إناثاً، وكادت تقوم بينهم حرب أهلية، مما سهل للقائد التركي محمد الفاتح احتلالها وإسقاط الإمبراطورية البيزنطية، ومنذ ذلك الوقت ذهب مثلاً القول (بالجدل البيزنطي). ويبدو أن المعارضة السورية تعيد الكرة بشكل مختلف وبما يتناسب مع ظروف العصر، وقد أدى اختلافها إلى تنحيتها جانباً وسلبها أي قدرة حقيقية على التأثير في الأزمة السورية وفي مستقبل النظام السوري، رغم محاولة هذه المعارضة أن تتحول من المجلس الوطني السوري إلى هيئة ائتلاف قوى المعارضة والثورة.

تشكل المجلس الوطني في الشهر التاسع من عام 2011 خلال أيام، وكان عبارة عن تجمع شخصيات وطنية سورية تعيش في المهجر متحالفة مع بعض التنظيمات السياسية الأخرى، وعلى التحديد مع الإخوان المسلمين وإعلان دمشق، وكان تشكيله المتسرع رداً على تشكيل هيئة التنسيق الوطنية التي كانت قد شُكلت في الداخل السوري قبل شهرين من ذلك التاريخ.

ولم تُتح الفرصة للمجلس الوطني بسبب استعجال تشكيله، لإعداد برنامج شامل يسير في هديه، فتبنى موضوعاً واحداً وحيداً كبرنامج هو الدعوة للتدخل العسكري الأجنبي لإسقاط النظام الاستبدادي السوري، دون أن يهتم بإعطاء الأولوية لوحدة المعارضة مع الحراك الشعبي، وبوضع برنامج نضالي داخلي من شأنه تفكيك النظام السياسي و إسقاطه.

ودون حتى أن يأخذ في اعتباره أن التدخل العسكري الأجنبي ليس قراراً يتخذه هو وإنما تتخذه دول لها مصالحها وحساباتها واستراتيجياتها، واستمر المجلس الوطني مصراً على تحقيق هذا الهدف وبيع الوهم للشعب السوري دون امتلاك شروطه الموضوعية، واعتقَد أنه هدف في متناول اليد وأن التدخل العسكري قادم، وسيـأتي فرسان المجلس الوطني في إثره على أحصنة بيضاء ليحكموا سوريا، ولذلك رفضوا واقعياً مباشرة أو مداورة، أي وحدة للمعارضة السورية، ليستأثروا هم وحدهم بوراثة النظام.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف تنازلوا كثيراً لدول أخرى، وأذعنوا لمطالبها، ونقلوا حل الأزمة السورية إلى الخارج، وأشغلوا أنفسهم بالسفر والمؤتمرات والتصريحات التلفزيونية الاستعراضية والنارية، واعتقدوا أن هذا الحراك يحل المشكلة ويسقط النظام ، ولكن قيادة المجلس الوطني ما لبثت أن أدركت أن المسألة أكثر تعقيداً مما تظن وأن الفجوة ازدادت بين المجلس وبين أطراف المعارضة الأخرى وبينه وبين الحراك الشعبي ثم بينه وبين المعارضة المسلحة، وبقي وحيداً في ميدانه، مرتهناً لمن يقدم له المساعدات.

 حتى أعلنت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية بنفسها فشله، وبدأ المجلس يتصدع ويتفكك وكاد أن يتلاشى، إلى أن اضطر لإعادة هيكلته أمام انعقاد مؤتمر هيئة الائتلاف الصاعدة والمدعومة من الدول نفسها التي كانت تدعمه، وقبل بالترضية بأن يكون ثلث أعضاء الجمعية العمومية للائتلاف من بين أعضائه.

جاء الائتلاف الذي عُقد في الدوحة، وريثاً للمجلس الوطني ويبدو أنه بدأ يسير في الخط نفسه الذي سار عليه المجلس الوطني، أي أنه لم يهتم كثيراً حتى الآن في برنامجه بوحدة فصائل المعارضة ولم يشر إليها، وأخذ ينادي بطلب الدعم العسكري الأجنبي، وتجاهل وضع برنامج سياسي شامل متعدد الجوانب لحل الأزمة السورية، كما تجاهل إقامة علاقات جدية مع الحراك الشعبي، ومع فصائل المعارضة الأخرى، وخاصة المعارضة المسلحة. وهكذا يكاد يقع في أخطاء المجلس الوطني، كما سار الخطوة الأولى في التحول إلى هيئة بيروقراطية، يهتم أولاً بتشكيل اللجان، وبعقد المؤتمرات وإطلاق التصريحات النارية دون تأثير جدي في الأزمة السورية.

وهكذا، وأمام أخطاء المعارضة الداخلية والخارجية وعجزها عن وضع برنامج نضالي وممارسته، تحول حل الأزمة السورية إلى يد القوى المسلحة المتصارعة، أعني الجيش السوري من جانب والمعارضة المسلحة من جانب آخر، وتهمش دور القيادة السياسية للنظام من جهة وقيادة المعارضة السياسية من جهة أخرى، فما زالت المعارضة تبحث عن جنس الملائكة ونُحيت جانباً، دون أن يبقى لها أهمية جدية في حل الأزمة، وتكاد تفقد دورها الذي لا غنى عنه.

إن حل الأزمة السورية المستعصية يتوقف الآن على الحسم العسكري كما يبدو، وقد أصبح الحسم الآن حكراً للصراع العسكري، وإذا ما انتصرت المعارضة المسلحة (ولاشك عندي بأنها ستنتصر) فهي التي ستحدد طبيعة المرحلة الانتقالية وحيثياتها وإجراءاتها، والمراحل التي ستمر بها وطبيعة النظام السياسي المقبل وهيكليته، وكل ما يتعلق بسورية في المرحلة المقبلة، وليس المعارضة السياسية هي التي ستقرر ذلك، ولعل القول بغير هذا هو حراثة في البحر، ولغو لا يؤدي إلى أي قرار.

لعل المفارقة أن سورية تمر بأصعب أزمة في تاريخها، وفصائل المعارضة السورية التي ناضلت عشرات السنين ضد هذا النظام الاستبدادي القمعي، والتي اكتسبت خبرات هامة من خلال نضالها، لم تستطع حتى الآن، أن توحد جهودها، وتقرر برنامجاً موحداً شاملاً لمواجهة هذا النظام، ومازالت تتناقش في تحديد جنس الملائكة، أعني تتجادل في شروط وحدتها أو توحيد جهودها، لتصد عن الشعب السوري غائلة الاستبداد والقمع والقهر والتدمير، ومازالت تنتظر الخارج كي يقرر مستقبل الشعب السوري، بدلاً من أن تعتمد على إمكانيات شعبها بالدرجة الأولى ، فلن يكون الدعم الخارجي سوى عامل مساعد فقط .

 

Email