مصر ومرحلة اختبار القوة

ت + ت - الحجم الطبيعي

حين توجه الرئيس المصري إلى جماهير حزبه وأعوانه من السلفيين المحتشدين في أحد ميادين القاهرة في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، كانت حشود المعارضة تملأ ميادين أخرى على امتداد المدن المصرية. واللافت للنظر أن خطاب الرئيس مرسي إلى الشعب المصري تضمن كماً هائلًا من الأنا ونبرة الأبوة، بعد القرارات المتفردة التي أصدرها، فتذكر المصريون خطب الرئيس أنور السادات الذي طالما تحدث إلى الشعب المصري بكثير من الأبوة.

منذ سنوات عدة، أثار خطاب الأنا والأبوة لدى حكام العرب غضب أحد كبار المستعربين اليابانيين، نوتاهارا، فعلق عليها في كتابه الهام "العرب؛ وجهة نظر ياباني"، بكثير من التأدب. كتب ما يلي: "يخاطب الحاكم العربي الشعب بكلمة: يا أبنائي وبناتي.

نحن نعتبر هذه الكلمة إهانة بالغة إذا استعملها مسؤول ياباني مهما كان كبيرا، ولا نقبل بهذه الصيغة. نقول لرئيس الوزراء أنت حر أن تقول في بيتك ما تشاء، أما خارج البيت فلا نسمح لك.

نحن نعرف أن مكانة الأب شبه مقدسة في البلدان العربية داخل الأسرة، استنادا إلى الدين والأعراف والأوضاع الاجتماعية التقليدية، فالأب خارج البيت رجل آخر. الحاكم يفعل الشيء نفسه مع الشعب، ويضع نفسه فوق الشعب في مكانة مقدسة. إ

نه فوق النظام وفوق المجتمع، لذلك يستفيدون عاطفيا من لهجة الأبوة ليسيطروا على الشعب. الحكام أيضا يرتكبون الأخطاء وعلينا أن نراقبهم بشدة كي لا ينحرفوا، ولا توجد رقابة فاعلة في الدول العربية".

لكن انتفاضات الربيع العربي في مصر وغيرها، أسقطت هذه الأبوة إلى غير رجعة. فعلى الرئيس أن يمارس صلاحياته وفق نصوص دستورية تضمن توزع الصلاحيات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتحافظ على استقلالية القضاء ليشكل رقابة فاعلة على كل من يمارس السلطة على أرض مصر.

وحين تجاوز الرئيس مرسي صلاحياته وأصدر متفردا قرارات تؤسس لحكم فردي يتجاوز القوانين والمؤسسات السائدة، وجهت قوى المعارضة إليه نقدا شديدا، فوصفته بالديكتاتور، وفرعون مصر الجديد، وأعطته اسما إضافيا ليصبح محمد مرسي مبارك، وغيرها الكثير من الأوصاف. ولم يتورع معارضوه من خوض معركة الدفاع عن الحريات العامة، متهمين "الرئيس الإخواني" بتنصيب نفسه حاكما مطلقا على شعب مصر.

ذكرت المعارضة الرئيس مرسي بأن وصوله إلى السلطة لم يكن ممكنا لولا ثورة 25 يناير المباركة، التي تبنت شعار التغيير الديمقراطي على مختلف الصعد، وأبدت استعدادها لمواجهة أي انحراف للرئيس عن مبادئ الثورة وأهدافها.

هكذا بدت المعارضة المصرية صلبة جدا، وأكدت عزمها على ألا تسمح للرئيس بإعادة تجديد النظام الديكتاتوري في مصر، مهما كانت الظروف والتبريرات، وحذرته من منح نفسه صلاحيات مطلقة، لأن المعارضة ستعتصم في ميادين التحرير إلى حين إلغاء جميع القرارات التي يصدرها في حال كانت تعارض بنود الدستور.

على جانب آخر، صعد القضاة المصريون خطابهم التحذيري ضد من أسموه "الفرعون"، الذي يحاول السيطرة الكاملة على جميع السلطات في مصر، واتهموه علنا بأنه يريد أن يغل يد القضاء لمنعه من التصدي لقراراته، ومن فرض رقابة صارمة على جماعته التي تحاول الحصول على صلاحيات واسعة بطرق غير دستورية في مجلس الشورى، وفي الجمعية التأسيسية للدستور ذات الغالبية الإخوانية.

وتمسك قضاة مصر بدور المحكمة الدستورية العليا التي تراقب دستورية القوانين، وبمحكمة القضاء الإداري التي تراقب قانونية القرارات الحكومية. وهما ستمارسان دورهما القانوني في مراقبة شرعية ودستورية قرارات الرئيس، ولن تعترفا بأي إعلان يصدر عن الرئيس خارج الصلاحيات الدستورية التي يتمتع بها.

وأكدوا على أن ما بني على باطل يبقى باطلا، وذكروا بأن قضاة مصر أصدروا آلاف الأحكام أثناء حكم الرئيس حسني مبارك إبان الانتخابات البرلمانية لعام 2010، لكنه رفض تنفيذها.

والآن، بعد قيام ثورة 25 يناير 2011، يعود الرئيس مرسي ليمارس الأسلوب نفسه. لذلك حذر القضاة الرئيس مرسي من مغبة الامتناع عن تنفيذ أحكام القضاء، لأنه يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون بالحبس والعزل.

لقد تحدى الرئيس مرسي وأعوانه الشعب المصري، والمعارضة، والقضاة معا، فردت المعارضة باقتحام مقرات عدة لحزب الحرية والعدالة الحاكم وأضرموا النار في بعضها، وهي ظاهرة جديدة وجديرة بالدراسة في تاريخ مصر.

فبعد أشهر قليلة على تسلمه السلطة بتأييد شعبي كبير، فشل الحزب الحاكم في الدفاع عن مقررات رئيسه، وعن مقراته الرسمية، وألب عليه أعدادا هائلة من قوى المعارضة، بأطيافها الليبرالية، والقومية، والناصرية، والعلمانية، وغيرها.

وارتفع مجددا في شوارع مصر شعار تردد كثيرا إبان ثورة يناير، وهو: "الشعب يريد إسقاط النظام".

وقد اشتدت حدة المواجهة في مصر فور الإعلان غير الدستوري، الذي أصدره الرئيس مرسي وقابلته قوى المعارضة بالرفض التام، واعتبرته خطوة واضحة على طريق ديكتاتورية سياسة الحزب الواحد الذي يسعى لحكم مصر باسم الدين، وطالبت بتحصين اللجنة التأسيسية للدستور بالتوافق مع السلطات القضائية ذات الصلاحية.

في الوقت نفسه، خرجت مظاهرات تأييد لقرارات مرسي في بعض المدن المصرية، دون أن تحمل أية شعارات سياسية سوى الدفاع عن قرارات الرئيس. فبدا دفاع المعارضة أقوى، لأنه حذر من الاعتداء على السلطات بطريقة تخالف أبسط مبادئ ومواثيق الديمقراطية وحقوق الإنسان.

وأكدت على أن قرارات الرئيس تشكل إعلانا مدويا لسقوط دولة القانون، ومحاولة لإجهاض الثورة ووأد عملية التحول الديمقراطي، وخطوة مفضوحة للمتاجرة بدماء الشهداء، وإقامة دولة ديكتاتورية محصنة من أي مساءلة أو محاسبة.

فاستقطبت إلى جانبها قوى ديمقراطية واسعة، داخل مصر وخارجها. فدعت منظمات دولية عدة إلى ضرورة إيجاد حل للأزمة المصرية بالطرق السلمية وعبر الحوار الديمقراطي، وذكرت بأن أحد أبرز أهداف ثورة يناير هو منع احتكار السلطة بين يدي شخص واحد أو مؤسسة واحدة أو حزب واحد.

وأكدت على أن الإعلان غير الدستوري الذي أصدره الرئيس مرسي، لم يكن في الاتجاه الصحيح، ولا يحقق تطلعات الشعب المصري، ولا يؤدي إلى قيام مؤسسات ديمقراطية تعددية، تحترم الحريات العامة والفردية، وتبني دولة القانون والمؤسسات، وتحافظ على استقلالية السلطة القضائية.

 

Email