لا يخفي مفكرو ونخب مجتمعات الاتحاد الأوروبي هواجسهم مما آلت إليه أحوال قارتهم، بعدما انتقلت مركزية الغرب بالكامل إلى فضاء الشمال الأميركي.
ولئن كان مبعث الهواجس يكمن أساساً في الانكفاء المتواتر عن مجالات السيطرة الاقتصادية والأمنية في الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا، فإنّ الانكفاء الثقافي كان الأشدّ وقعاً والأكثر استدعاءً للقلق. كل ذلك يدور مدار التساؤل عما ستفضي إليه تلك الأحوال من استتباع مرير لسلوك أميركا في العالم.
ربما من أبرز التوصيفات التي تختزل مشاعر الأوروبيين حيال ذلك الاستتباع، قولٌ صار مأثوراً لدى قطاع واسع من المفكرين الأوروبيين، ومؤداه أنّ "أفضل أنواع الهيمنة، هو الذي يبقى فيه الخاضع للهيمنة غافلاً عما هو فيه"... مثل هذا القول بات، بعد الصعود المدوّي للأمركة، أشبه بثقافة يومية ملازمة لكثيرين من مفكري الاتحاد، لا سيما وهم يرسمون بعبارات فلسفية علاقتهم المكتظة بالالتباس مع أميركا.
أكثر الأوروبيين اليوم، والفرنسيون منهم على الأخص، صاروا يفقهون هذه الأطروحة، إلا أنهم لا يأتون بعد بعملٍ يفتح على إمكان إحداث تغيير ما في الصورة. لكن النقد الأوروبي لأميركا لا يفارق عقلانيته المستمدة من ماضيه العريق، حتى وهو مثقل بإحساس غريب بالظلم.
ربما لهذا السبب يميل النقاد، ولا سيما في الوسط الثقافي، إلى التعامل بذهنية باردة مع حالة انعدام الوزن في العلاقة الأوروبية الأميركية، الأمر الذي بدت فيه حرارة الكشف النقدي وكأنها تميل إلى الوهن.
وهو ما يعتبره الكاتب الفرنسي إيناسيو رامونيه ضرباً من الغرابة، بحيث إن المقاومة الأضعف التي يلقاها المشروع الإمبريالي بأطواره القديمة والجديدة، هي في أوروبا الغربية. مع ذلك فإن من هؤلاء من يُرجِعُ السبب إلى حالتين:
الأولى فكرية ثقافية؛ لأن الولايات المتحدة نشأت نتيجة أول ثورة ديمقراطية، هي ثورة العام 1776، لمّا سبقت الثورة الفرنسية بثلاثة عشر عاماً. والثانية سياسية تاريخية؛ لأنه باستثناء انكلترا في القرن الثامن عشر وإسبانيا في أواخر القرن التاسع عشر، لم يحدث أن قامت دولة أوروبية في مواجهة ثنائية مع أميركا.
بل على العكس، فإن دولة الحرية هذه استقبلت بالترحاب ملايين اللاجئين والمنفيين الأوروبيين؛ وفي الحربين العالميتين (1914-1918 و1939-1945) تصرفت كما لو أنها صديقة القارة العجوز، عبر مشاركتها الحاسمة إلى جانب الحريات في مواجهة الظاهرة الفاشية.
مفكرون وفلاسفة أوروبيون، مثل هايدغر وهابرماس وسارتر وفوكو وسواهم، قرروا ومعهم كثيرون من المعاصرين، أنّ ديمقراطية أميركا ما عادت سوى حجّة لبسط الأغلال. وعلى ضوء هذا "المقتضب البليغ" من النقد الفلسفي أمكن لنا ملاحظة ما تختزنه فضاءات العقل الأوروبي من انتقاد لطبائع الهيمنة الأميركية.
اليوم ثمة من يمضي إلى القول إن لأوروبا أن تفعل شيئاً.. أقلُّه، وقد عرفت سرّ الإمبراطورية الأميركية في طورها النيوإمبريالي، أن تحدث توازناً جدّياً في نظام القيم الغربية نفسه. كأن تعود لتستأنف أنوارها وسياداتها السياسية والثقافية على أساس النقد والممانعة والاستقلال، بل على نصاب لا يعود فيه الأوروبيون حيارى بين حدّين مستحيلين: إما استعادة الإمبراطورية المفتوحة على التوازن الأممي الأعظم، وإما العودة إلى هوياتهم الصماء التي عبّرت عن نفسها بمقولة الدولة القومية خلال القرنين المنتهِيَيْن.
لكن القضية تبدو أكثر تعقيداً مما يتبادر إلى الذهن، فالعلاقة بين المركزية الأميركية المعاصرة والغرب الأوروبي، تنطوي على عوامل تتجاوز السيطرة الاقتصادية والعسكرية، لتبلغ في عمقها الطبقات القصية في الذاكرة المشتركة، عنينا بها الذاكرة الدينية.
كيف تبدو الصورة في هذا المحل بالذات؟ في ديوانه "الكنيسة المكافحة"، يعبر الشاعر الإنغليكاني جورج هربرت بعمق عن الدلالة الدينية لحركة المستعمرين الإنكليز الأوائل، الذين استقروا في أميركا.
يقول: "إن الدين عندنا يقف على رؤوس أصابعه مستعداً للقفز نحو الشاطئ الأميركي"... أراد هربرت أن يترجم أحوال أولئك الذين كانوا يعتبرون أنفسهم "المصطفين"، ممن نالوا ـ حسب زعمهم ـ العناية الإلهية ليبنوا "مدينة فوق جبل"، لتكون المثل الأعلى للإصلاح الحقيقي في كل أرجاء أوروبا.
لقد مضى هربرت من طريق الشعر، ليستجلي هوية من زعموا أنهم اتبعوا درب الشمس في مجراها نحو الغرب الأقصى، إذ إنهم بذلك يواصلون ويستكملون بطريقة عجائبية مذهلة، الانتقال التقليدي للدين والثقافة من الشرق إلى الغرب. وهم رأوا في بقاء أميركا محجوبة عن الأوروبيين حتى زمن الإصلاح، آية من آيات العناية الإلهية.
فالرواد الأوائل المشار إليهم، لم يكن لينتابهم شك في أن الدراما الختامية للانبعاث الأخلاقي الجديد وللخلاص العالمي، سوف تبدأ على أيديهم، طالما أنهم كانوا هم بالذات أول من اتبع الشمس في مجراها نحو جنائن الغرب الفردوسية.
هذا التصوير الشعري للحلم الأميركي البدئي، سوف نجده ممتداً في مجمل الملامح النصيّة للاهوت الأميركي الفلسفي والسياسي والثقافي والإيديولوجي. وعلى ما يبيِّن عالم الأنثروبولوجيا "مرسيا إلياد"، فإن الولايات المتّحدة كانت، أكثر من أي أمة أخرى، نتاجاً من نواتج الإصلاح البروتستانتي الذي كان يبحث عن فردوس أرضي يستكمل فيه إصلاح الكنيسة.
لذلك لم يكن مستغرباً ملاحظة أن المعتقد الديني الشعبي الذي ساد المستعمرات، كان ذاك القائل بأن أميركا قد اختيرت من دون سائر أمم الأرض لتكون موئل المجيء الثاني للمسيح، وأن الألفية، رغم طابعها الروحي في الأساس، ستكون مصحوبة بتحول الأرض تحوّلا فردوسياً، باعتبارها علامة خارجية على إتمام الكمال الداخلي.
على مثل هذه الأنحاء جرى التمازج العجيب بين الديني والسياسي في أميركا، إذ في الخطاب الثقافي/الحضاري يصبح من المتعذّر الفصل بين أجناس الكلمات والعبارات، التي تنتمي إلى الدين والسياسة في الوقت عينه. وقد يصل الأمر إلى تمامه من الامتزاج، حين لا يعود ثمة فرق بين الدين والسياسة في الثقافة التاريخية الأميركية.
ماذا يعني هذا بالنسبة للمثقف الأوروبي الذي ابتنى حضارته الحديثة على القطيعة المطلقة بين الإيمان الديني وسياسة الدولة والمجتمع؟
حالة المراجعة التي بدأها النقد الأوروبي للعلمنة، تفضي إلى الوقوف على أسئلة تنتمي إلى نوع الأسئلة نفسها التي عاشتها أميركا قبل أن تنجز ثورتها الدستورية، حيث استطاعت ببراغماتيتها أن تصالح بين لاهوت الأرض ولاهوت السماء، لبناء مشروعها الإمبراطوري.. فهل يفلح العقل الأوروبي المشحون بأسئلة المجد الضائع في أن يستعيد ملحمة أميركا الأولى؟!