غزة والربيع العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

استمعت إلى الخطابات التي ألقاها وزراء خارجية الدول العربية في اجتماعهم الأخير، الذي عقد في مقر الجامعة العربية في القاهرة، لنصرة الشعب الفلسطيني في غزة الذي يتعرض لعدوان غير متكافئ من جانب آلة الحرب الإسرائيلية. ولعلها من المرات القليلة التي أصيخ فيها السمع لمثل هذه الاجتماعات، التي تعودنا ـ نحن الجمهور العربي العريض ـ على أن تكون خطاباتها إنشائية تأتي من باب "إبراء الذمم"، أكثر من أن تكون خطابات لتفعيل أدوات الضغط ووضعها موضع العمل.

غير أن ما دفعني إلى أن ألتفت إلى ذلك الاجتماع وأن استرق السمع إلى كلمات الحاضرين، هو الجو العربي العام الذي خلقه الربيع العربي، بالنزعة التفاؤلية التي أطلقها في نفوس الجماهير في طول البلاد العربية وعرضها. وبالفعل فقد تجسد تغير النفسية العربية بزيارة رئيس وزراء مصر إلى قطاع غزة وهي تحت القصف، تبعه قدوم وزير خارجية تونس إليها، ثم الدعوات بأن يتشكل وفد من الجامعة العربية للذهاب إلى هناك للمؤازرة والمساندة.

ولو عادت بنا الذاكرة، للمقارنة بين الوضعين ليس إلا، لاستحضرنا صورة وزيرة خارجية إسرائيل ليفني قبل أربعة أعوام، وهي تقابل حسني مبارك، وطائرات بلادها تدك مباني غزة على رؤوس ساكنيها!

وأسارع بالقول إن نفسية الجماهير العربية لا تعني أن الحرب مع إسرائيل أصبحت خيارها، وأن الشعارات القديمة قد "بعثت في نفوسها"، فنحن إزاء جيل جديد، أصبح يرى إسرائيل واقعاً، يريد أن يقيم معها سلاماً مشرفاً لا تذهب فيه "البقية الباقية من حقوق شعب فلسطين". فلئن ارتضى هذا الشعب ـ لظروف تاريخية عملية يعرفها الجميع ـ أن يعترف بإسرائيل، فإنه قرن ذلك ببناء دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وحل مشكلة اللاجئين، والمستوطنات وغيرها.

لم يكن عرفات وقد ذهب وفده للتفاوض السري في أوسلو، الجنرال جياب وقد أذاق ثواره الفيتكونغ الفرنسيين مرارة الهزيمة في معركة ديان بيان فو عام 1956، ولم يكن هوشي منه وهو يرى جنود المارينز وهم يفرون بجلودهم من سطح السفارة الأميركية في سايغون مذعورين.

ذهب وفد عرفات إلى أسلو ثم جرى "الاعتراف التاريخي" في واشنطن عام 1993، في أسوأ حالات ضعف الأمة العربية. فقد كانت المدافع قد سكتت منذ عقدين، وكان السادات قد "اعترف" بدولة إسرائيل، ووقع معها اتفاقية "كامب ديفيد" وتبادل معها السفراء، وأخرج من الصراع أكبر قوة عربية يمكن أن تحقق توازناً استراتيجياً مع إسرائيل.

راهن عرفات في صلحه مع إسرائيل واعترافه بها، على قوة الحق الفلسطيني، ولكن كيف يسود الحق إذا لم تدعمه قوة؟! وسعت إسرائيل بما أوتيت من قوة لنيل الاعتراف من "أفواه" أصحاب الأرض، وبالتالي كسب الشرعية أمام العالم، ثم راهنت على تجزئة الحل بعد ذلك. وهكذا ولد اتفاق أسلو "كسيحاً"، فالقوي (كما تخبرنا قوانين الحياة الاجتماعية التي هي بصرامة قوانين الطبيعة) قد حصل على ما كان يريده ـ وهو الاعتراف ـ ثم استرجع كل ما أعطى في المقابل، فضلاً عن تنصله من التزاماته.

ثم خرج هذا القوي (إسرائيل) ببدعة جديدة، كشرط لمواصلة مفاوضات السلام، وهي أن يعترف الفلسطينيون أن إسرائيل "دولة يهودية". وهذا معناه أن سكان فلسطين المحتلة الذين بقوا على أرضهم وأصبحوا تبعاً لذلك مواطنين يحملون جنسيتها "سكان طارئون"، يحق لإسرائيل قانوناً طردهم أو سحب جنسياتهم، أو استبدالهم بالإسرائيليين الذين يقيمون في المستوطنات في الضفة الغربية!

جاء الربيع العربي بعد تلك التطورات التي استغرقت عقوداً ثلاثة، ليغير نفسية الإنسان العربي ويحفزه على المقاومة، ولذلك لا نتعجب إن سمعنا في مؤتمر وزراء الخارجية الأخير دعوات لإنهاء التطبيع، بل وأخرى لإعادة النظر في اتفاقيات السلام.

وما يخبئه لنا المستقبل ربما يكون أكثر.. ولعله يكون الأفضل!

 

Email