أبو مازن أمام اليهودية والفلسطينية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أثناء حديث له مع مراسل تلفزيوني إسرائيلي، أعلن السيد أبو مازن استعداده الشخصي، وليس الرسمي، للتخلي عن حقه في المطالبة ببيته في فلسطين النكبة الأولى. أثار ذلك حفيظة الفلسطينيين بالدرجة الأولى، وبعض الدول العربية بالدرجة الثانية! اعتبره الفلسطينيون مقدمة أو إيذاناً أو شروعاً أو حتى إعلاناً رسمياً بالتخلي عن حق العودة، بالنسبة لعموم اللاجئين في عام 1948.

أكد ذلك مستشاره السياسي، حين أعلن الأخير عدم واقعية عودة مئات الآلاف من فلسطينيي الشتات إلى أمكنة لهم في العاصمة تل أبيب وبقية المدن الإسرائيلية. على حد رأيه، أمر غاية في الاستحالة في ظل ميزان عسكري وديمغرافي يميل لصالح الإسرائيليين وبشكل جارف.

حقيقةً يقف السيد أبو مازن ومعه القيادة الفلسطينية وعموم الفلسطينيين، أمام واقع فريد من نوعه. يتلخص في بروز مسألة أخرى لديهم، ألا وهي المسألة اليهودية، إذ منذ نشأة الديانة اليهودية بما فيها من خصوصيات حادة في التميز والتفرد، مثل خاصية شعب الله المختار! واليهود يبحثون عن وطن أو ملاذ آمن لهم؛ ملاذ يقيهم الصدام المستمر مع الأمم والحضارات والمدنيات والأقوام الأخرى. بسبب مواجهتهم الحادة مع الأقوام الأخرى، مروا بفترات تاريخية عصيبة تثكل بالجراح ذاكرة الأجيال اليهودية الحالية والمقبلة. هذا ما يخلق لديهم ما يمكن أن يطلق عليه «فوبيا أو رُهاب الآخرين المزمن»؛ هذا أيّاً كان الآخرون.

اصطدم اليهود وبشكل دراماتيكي مع كافة العقائد والأديان التي ظهرت بعد اليهودية، وخاصةً المسيحية والإسلام. حدثت مواجهات أيديولوجية اجتماعية، غالباً ما كانت تتطور إلى مواجهات مكشوفة مفتوحة على كافة الاحتمالات، خاصةً البائسة منها. حروب خسروا فيها المصالح والأموال والأنفس والممتلكات. مثلهم مثل المسلمين والعرب، واجه اليهود حملات تصفية وإبادة في العصور القديمة، مثلما حدث أيام محاكم التفتيش الإسبانية في الأندلس المقامة أصلاً ضد المسلمين. وصلت الأمور إلى الذروة في القرن الماضي، حين قرر الأوروبيون بقيادة النازيين، وضع «حل نهائي» للمسألة اليهودية أو الوجود اليهودي في أوروبا، وربما العالم.

تمكن اليهود في منتصف القرن الماضي من إنشاء دولة لهم معترف بها دولياً، دون مراعاة لوجود سكان البلاد الأصليين. نجحوا في ذلك مستغلين معادلات واتجاه رياح السياسة الدولية الحديثة؛ أتقنوا استغلالها والتعامل معها. السياسة الدولية الحديثة مرسومة بشكل رئيسي من القوى الدولية الغربية؛ الأخيرة تعتبر اليهود (الإسرائيليين) أكثر قرباً وانسجاماً وتوافقاً معها. هذا بالمقارنة مع الحال مع العالم الإسلامي والعربي الذي يُعتبر الخصم اللدود.

بتصريحه السياسي يفهم السيد أبو مازن ويعي عمق المسألة اليهودية؛ يحاول أن يقدم ما يستطيع لإيجاد صيغة توافق وتفاهم وسلام بين هذا الطرف وذاك. لم يخفف ذلك من الغلواء الإسرائيلية في اتجاه الاستحواذ على حقوق الفلسطينيين والتنكر لما تبقّى منها. القيادة الإسرائيلية الحالية عالية المطامح تجاه الحقوق الفلسطينية والعربية وحتى الدولية. لليهود حسابات قديمة وحديثة وجديدة متجددة، إزاء الكثير من الأقوام والمجموعات. لهم طموحات أيديولوجية الأساس وجيو-استراتيجية في دول الجوار ومناطق جوار الجوار، لتثبيت وجودهم المتفوق بلا منازع بشكل أبدي، ما أمكنهم ذلك.

الرد الإسرائيلي على تصريح السيد أبو مازن كان واضحاً. يتمثل ذلك بمنع أو تهديد الطرف الفلسطيني حتى لا يلجأ إلى الأمم المتحدة للاعتراف بالوجود (دولة غير عضو في الأمم المتحدة). تهديد آخر جاء بمحاولة خنق السلطة الفلسطينية، ومعها الشعب الفلسطيني في الداخل. بعد اتفاق أوسلو وضعت إسرائيل كل أشكال القيود والمحددات، كي تبقى السلطة الفلسطينية تحت رحمتها، وفي قسم المراقبة الدائمة! حالياً تجري الاستعدادات على قدم وساق لاستدراج المقاومة في غزة إلى حرب أخرى مكشوفة.

تنازُل السيد أبو مازن الشخصي عن حق العودة لبيته، خلق استياءً عميقاً لدى الطرف الفلسطيني، وربما دهشة واستغراباً لدى الطرف الإسرائيلي! لربما تساءل الإسرائيليون ألم يكن عليهم بدل ذلك، حلحلة مواقفهم المتعنتة إزاء الاعتراف بالحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية.

البديل السلمي هو الاعتراف بكيان سياسي فلسطيني مستقل في الضفة الغربية وقطاع غزة، عاصمته القدس الشرقية المحتلة عقب عدوان يونيو/ حزيران 1967.

 

Email