لم تكد تمضي ساعات قليلة على فوز الرئيس باراك أوباما بولاية رئاسية ثانية، حتى كانت الأخبار المتواترة من واشنطن تشير إلى استقالة مفاجئة تقدم بها مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية CIA إلى أوباما، وقبول الثاني لها بسرعة، وكأن الأمر كان مخططا له ومرتبا بصورة سابقة على عملية الانتخابات الرئاسية.
والشاهد أن الذريعة وراء هذه الاستقالة مثيرة للجدل، والقول بأن بترايوس قد صحا ضميره فجأة، بعد علاقة غير شرعية خارج إطار زواجه الشرعي الذي دام 37 عاما، قول ضعيف ولا يستقيم في إطار عمل رجال الاستخبارات، لا سيما القيادات العليا المحاطة دائما بكثير من الغموض في كافة تحركاتها، وبالقطع لم يكن لبترايوس أن يعجز عن إخفاء مثل تلك العلاقة إلى الأبد، والبيت الأبيض والمخابرات المركزية، عطفا على المباحث الفيدرالية، ممتلئة أضابيرها بقصص من ذلك النوع.
ما السر إذاً، وراء تلك الاستقالة المفاجئة؟ حتماً أن الوقت مبكر لمعرفة التفاصيل، غير أن هناك شكوكاً كثيرة تحوم حول القصة.
في البداية يعن لنا التساؤل؛ هل جاءت تلك الاستقالة انتقاماً من بترايوس بسبب أزمة بنغازي، وهو الرجل الذي كثر الحديث عنه من قبل كجواد رابح للجمهوريين في الانتخابات الرئاسية القادمة 2016 في مواجهة وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، والمرجح أن ترحل لتعد نفسها للمعركة القادمة؟
المعروف أن الجمهوريين، وقد مثلهم في ذلك مرشحهم للرئاسة ميت رومني، قد اتهموا إدارة أوباما بأنها تهاونت في حماية البعثة الدبلوماسية في بنغازي، مما أسفر عن وقوع قتلى وجرحى وفي مقدمتهم السفير الأميركي هناك. ولاحقاً تبين أنه قد كان هناك فصيل من رجالات الاستخبارات المركزية في بنغازي، ومع ذلك أخفقوا جميعاً في درء الكارثة التي وقعت هناك..
الذين يعرفون الجنرال بترايوس يدركون كيف أنه جنرال غير عادي، فهو "جنرال بدرجة مفكر سياسي"، فبالإضافة إلى أنه جاء على رأس دفعته لدى تخرجه في كلية قيادة الجيش والقيادة العامة الأميركية عام 1983، نراه يحصل لاحقا على شهادة دكتوراه في العلاقات العامة من جامعة برينستون العريقة، مما أضاف له حنكة سياسية في التعامل لاحقاً مع الواقع العراقي، وحماية المدنيين في مواجهة هجمات الإرهابيين.
يلفت الانتباه في شأن بترايوس، أنه كان قد حل زائرا على القاهرة قبل بضعة أيام، وفي توقيت مثير للغاية، حيث كان الأمن القومي الأميركي في الداخل عرضة للمخاطر من جراء الإعصار ساندي، الذي فعل فعله بعدد من ولايات أميركا الشرقية الساحلية.
وقد كان السبب الرئيسي وراء تلك الزيارة مغلفاً بالغموض وذهبت التحليلات حوله مذاهب شتى، بين القول بنقل رسالة طمأنة للقاهرة من تل أبيب بعد المناورات العسكرية الأميركية الإسرائيلية المشتركة الأكبر في التاريخ الحديث، وبين القول بالإشراف على التحقيقات بشأن ما يعرف بـ"خلية مدينة نصر الإرهابية" التي تردد أنها وراء ما جرى في بنغازي.. والعديد من الروايات، وجميعها تؤكد أن الرجل كان أبعد ما يكون عن فكرة الاستقالة المفاجئة، هكذا ومرة واحدة، بسبب الندم على "الأمر غير المقبول"، أي الخيانة الزوجية.
تطرح استقالة بترايوس على هذا النحو علامات استفهام عريضة عما يجري داخل أروقة الاستخبارات المركزية مؤخراً، لا سيما في ظل القاعدة العملانية الشهيرة الموجهة دائما لرجالات الجهاز وقادته "لا تعترفوا بشيء.. أنكروا وأطلقوا اتهامات مضادة"...
هل كان إخفاق بنغازي وراء عودة الطلب الملح عند كثير من الدوائر الأمنية الأميركية العليا، بشأن الحاجة إلى جهاز استخبارات خارجي جديد؟
ثم الأهم؛ هل بدأ باراك أوباما عهداً مغايراً في ولايته الثانية، والتي فيها ستكون يداه أكثر حرية في التعاطي مع مراكز القوى الأميركية وجماعات الضغط، وفي مقدمتها المجمع الاستخباراتي الأميركي، والذي بات لا يقل ضراوة عن المجمع الصناعي العسكري الأميركي العتيد؟
في كتابة الشهير "تركة من الرماد"، يتحدث الكاتب الأميركي الشهير تيم واينر عن إخفاقات الـCIA عبر العقود الماضية، رغم مليارات الدولارات التي أنفقتها ولا تزال.. فقد فشلت في التنبؤ باندلاع الثورة الإسلامية في إيران 1979، وعندما كان صدام حسين يغزو الكويت عام 1990، كان قادتها في نزهة عائلية ولا يدرون شيئاً عما يجري من حولهم.
أما الكاتب البريطاني الكبير توماس جوردن ففي كتابه المثير "جواسيس جدعون"، يذكر أن الإخفاق الأكبر والأشهر للوكالة، هو أنها لم تنجح أبداً في تجنيد جاسوس عالي المقام داخل الهرمية السوفييتية، ولذلك نجدها قد اضطرت إلى الاكتفاء بفرضيات حول أوضاع البلاد وسياساتها للتسلح.
أما الخطيئة المميتة للوكالة، فجرت مقاديرها صبيحة الحادي عشر من سبتمبر 2001. ربما تبقى أسرار استقالة بترايوس المفاجئة لغزاً في الأمد القريب، لكن حتماً وفي ظل حرية الإعلام الأميركي، ومساعي المباحث الفيدرالية للتحقيق في الأمر، عطفاً على لجان الاستخبارات في مجلس الشيوخ، فإنه سيعلن عن أبعادها وما إذا كانت هناك تسريبات لمعلومات عسكرية عالية القيمة، قد جرت عبر العلاقة مع بولا برودويل التي شاركت في تأليف السيرة الذاتية لبترايوس، والتي نشرت في وقت سابق من هذا العام تحت عنوان "الكل في تعليم الجنرال بترايوس".
هل تتجاوز الإشكالية الرجل إلى الجهاز، لا سيما وأنها جاءت في ظل الطبيعة المتغيرة للتهديدات الأمنية المستمرة حول الكرة الأرضية؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك، وخاصة بعدما بات العنصر البشري أكثر فاعلية في جمع المعلومات الاستخبارية، بشكل أفضل من الأقمار الاصطناعية وأدوات التنصت والجاسوسية الشهيرة، التي لا تعرف أبداً الوصول إلى خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ما يعني الحاجة أميركياً لجهاز استخبارات غير ارتدادي أو رجعي، ومخالف لذاك الذي أنشئ من أجل الزمن الماضي أيام حقبة الحرب الباردة، حيث كان العالم أكثر ثباتاً وأقل تحركاً.