يستوي قلق النخب العراقية بصدد قضية بناء الدولة، مع القلق العام الذي يجتاح الثقافة السياسية العربية بقوة، سحابة العامين المنصرمين.
فإذا كانت الجيولوجيا السياسية التي أطلقتها ثورات "الربيع العربي" مع بداية العام 2011، قد أعادت الاعتبار لسؤال الدولة، فإنَّ هذا السؤال يكتسب في الحالة العراقية وزناً مضاعفاً.
كما لو أنَّ عراق ما بعد الاحتلال ينطوي على رهانٍ استثنائي، لجهة تقديم نموذج لدولةٍ من طراز حديث ومعاصر، يستطيع أن يتجاوز الكثير من التعقيدات النظرية والعملية في هذا الشأن.
أي نموذج يمكن للنخب العراقية أن تحفر مجراه وسط هذا الكمّ الهائل من التعقيد الوطني والجيوستراتيجي؟
"الدولة المدنية" أو ما يسعى كثيرون إلى بلورته تحت عنوان الدولة العصرية العادلة، يشكل أحد أبرز العناوين التي يمكن أن يقدّمها العراقيون لأنفسهم وللعرب في آن. ولمّا كان الوضع الاستثنائي يستلزم تصوّرا استثنائياً موازياً له، نرانا إزاء مساهمة نظرية في إطار النقاش الدائر حول إشكالية بناء الدولة والمجتمع في عصر ما بعد التحوّلات.
وقد رأينا أن نضع هذه المساهمة في سياق منظومة تنتمي في صفاتها إلى طراز يتعدى الشائع في أدبيات الفكر السياسي الكلاسيكي، أو في ما نلاحظه من مداولات بين النخب العربية والإسلامية المعاصرة.
فإذا كانت صورة الجدل الذي ينمو بقوة في الغرب، يدور حول وجوب إعادة الاعتبار لدولة الرعاية، فإن ما تفترضه الجيوبولتيكا العراقية - فضلاً عن تسييل هذا المفهوم بأبعاده وقواعده التقليدية - هو وجوب فتح الكلام على ما نسميه بــ«دولة العناية».
ومثل هذا المقترح نفترض أنه يناسب الحاجات التي تستلزمها الوضعية الانتقالية المعقدة، التي يعبرها عراق ما بعد الاحتلال. وما ينبغي قوله في هذا الشأن، هو أن قيام دولة العناية أمرٌ مشروط بتلازم ثلاثة أركان، لا مناص من توافرها لعراق حديث وسيد ومقتدر:
الأول؛ ركن العلم والمعرفة، وهو ما لا مناص من توفره لدولة تعصف بها رياح مثلثة الاتجاهات: الاستبداد، والاحتلال، وفوضى إعادة البناء. الغاية من هذا الركن بالنسبة للنخبة العراقية، هي رسم هندسة معرفية مؤداها إحلال المتحد السياسي متعدد الأقطاب محل أحادية الاستبداد، وبسط السيادة الوطنية محل الاحتلال، وصوغ استراتيجيات التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بمنأى من الاستتباع القسري إلى المركز الرأسمالي النيوليبرالي.
الثاني؛ ركن الأخلاق والقيم، وهو ركنٌ يتصل بعمق في الجواب على سؤال الدولة لجهة ماهيتها وهويتها. وفي الوضعية العراقية يتضاعف الرهان على هذا الركن، كعامل حاسم في بلورة الجواب على خاصيَّة مركزية من خصائص الدولة الناجحة.
أما القصد من تظهير هذه الخاصيَّة، فيكمن في مقدرة النخبة على حسم الجدل السلبي بين الديني والدنيوي، وذلك من خلال تحويل وجهي المعادلة إلى طاقة حيوية خلاّقة في إعادة تأسيس الدولة والمجتمع والمؤسسات، على نصاب النمو والتكامل والجمع بين الإيمان الديني والسياسة المدنية، وصناعة الاستراتيجيات الوطنية في عالم مليء بعوامل الاحتدام.
وما دمنا في معرض الكلام على دولة العناية، فإن كثيراً من الصفات التي تستلزم جلاء صورتها، سوف تحتل مكاناً أعلى مما نتخيَّل، لعل الصفة الأبرز في صفاتها المتعددة هي أنها دولة مدنية بامتياز. فلئن كانت نظرية الدولة تطوي في أعماقها بعداً وجودياً بالنسبة لمواطنيها، فذلك يعني أننا إزاء قضية فلسفية سياسية مركَّبة.
فالمسألة النووية مثلا، وهي المسألة الأكثر تهديداً لمصير البشرية، لا تتوقف عند حدود السياسة وحسب، بل كذلك وبصورة أعمق وأشمل، على الميتافيزيقا كما يبيِّن الاستراتيجي الفرنسي جان غيتون.
ذلك أنَّ القضايا العليا المتعلقة بمعنى الحياة، والاختيار بين الكل واللاشيء، ليست عَرَضية. كذلك لا تعود الأخلاق والميتافيزيقا معزولة داخل الضمائر الفردية، أو أنها موقوفة على الأديان. بل إنها تغادر سرّ الضمائر وتندرج في التجربة، في السياسة والقضايا الدولية وحسابات الاستراتيجيا.
مثل هذه الإحالة إلى المنطقة القصوى من نشاط الفكر الاستراتيجي، تبدو لنا ضرورية في معرض الكلام على «دولة العناية». وما ذاك إلا لأن العراق واقع إقليمي ودولي استثنائي، يملي على نُخَبِهِ الوطنية وقواه السياسية أفهاماً وتدبيرات توازي هذا الواقع وتستجيب لضروراته.
الثالث؛ ركن القدرة والتخطيط الاستراتيجي، وهو يجمع بين ركني العلم والأخلاق، ويقوم على حسن توظيف القوى والقدرات الكامنة في المجتمع والدولة. ومن دواعي التفاؤل أن عوامل القدرة في العراق كثيرة، وهي ذات قيمة استثنائية في تكوين هذا الركن..
تؤلف هذه الأركان الثلاثة وحدة عمل استراتيجية لنخب الحكم والمعارضة في آن، فهي ترسم للإجماع الوطني حدوده الكبرى والأساسية في جدلية الاتفاق والاختلاف، كما تؤسس لقواعد عقلانية في إدارة التزاحم على السلطة.
وأما التلازم بين مكارم الاخلاق وروح القانون في دولة العناية، فمن شأنه أن يمنحها القدرة على ضبط النخب ضمن حدود التقوى السياسية في تدبير الشأن العام، إذ عندما يتحقق التلازم المشار إليه يصير المسلك الأخلاقي والعمل السياسي تبعاً لروح القانون واحداً، فلا يعود ثمة انفصال بين الأمرين.
في المقابل يؤدي هذا التلازم إلى تحرير دولة العناية من إلزامات الدرس «المقدس» للماكيافيللية، الذي غالباً ما يلقي بثقله على الحكام متى يجدون أنفسهم في تلك المنطقة الصعبة بين الأخذ بمتساميات القيم، وضرورات الحفاظ على مصالحهم السياسية، أو على المصالح الوطنية العليا للبلاد.
ولأن دولة العناية تستوجب قيادة اعتنائية مدركة وعالمة وتملك أهلية العقد والحل، فإن من شأنها توليد وإنتاج نخب تعمل على شاكلتها، وتلتزم قواعد الاعتناء التي قامت عليها، سواء ما اتصل منها بأنظمة القيم والقوانين الجديدة، أو لجهة صوغ الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية الآيلة إلى تحقيق العدل في توزيع الثروة الوطنية، والتوازن في الاجتماع السياسي وتداول سلطة الحكم.
ولذا فالمسار الذي تحفره دولة العناية على صعيدي الحكم والمجتمع، هو مسار ديمقراطي تراحمي، تتلاقى فيه إرادة الاعتناء في مقام الغيرة على الوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية، بإرادة الاعتراف والمسامحة في مقام العمل السياسي وتدبير الشأن العام.
إن ما تفعله ديمقراطية التراحم في هذه المنزلة بالذات، أنها تقدم نفسها كحاصل لاقتران روح القانون بالتبصر الأخلاقي. ولذلك فهي ديمقراطية تقوم على التنازل الطوعي من جانب قواها المتعددة، إلى الدولة الواحدة الجامعة.
عند هذه الدرجة من الديمقراطية ذات السمة الاعتنائية، تنفتح الآفاق الفعلية للتشكُّل الجيوبوليتكي الوطني، كطور لا بد منه لتحقيق الحضور الجيوستراتيجي في الإقليم فضلاً عن المجال الدولي الأوسع.