أبناء الأمس

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مرحلة الطفولة الجميلة التي قضيتها بين مفردات الطبيعة الخلابة في مدينة دبا الفجيرة، كنت مع مجموعة أصدقاء من محبي المغامرات، نخرج في رحلات استكشافية ممتعة إلى الجبال والسهول والبحر، إذ كنا نقوم بسبر أغوار الجبال بهدف البحث عن كنز ثمين.

فلا نجد إلا خلايا النحل المنتشرة في كهوف الجبال، فنقوم باستجداء النحل كي نظفر بقليل من العسل، لكن النحل لا يدعنا نفلت من لسعاته المؤلمة على وجوهنا أو أيدينا، ومن ثم نعود إلى أهلينا متورمي الوجوه والأيادي، لكننا على الرغم من ذلك، نجد المتعة والجمال اللذين نبحث عنهما.

أما رحلات البر فنجعلها في وقت نزول المطر، حتى نستمتع بالجو الغائم ونشتم رائحة الأرض الرطبة المنعشة، إذ كنا نضرب خيامنا غير المسقوفة قرب الوديان، حيث نتوسد الأرض ونلتحف السماء، متفائلين ومقبلين على الحياة بحب وبهجة وسعادة.

بيد أن رحلات صيد الأسماك كانت شبه يومية، ذلك لأن البحر معروف بكرمه الذي لا يخضع لمواسم معينة كي يجود به على أهله، فالبحر كله ثراء وعطاء ليت بعض البشر يتعلمون منه، فضلاً عن أن البحر كان قريباً جداً من منازلنا.. فقد كان البحر بغموضه يشكل لنا علامة استفهام نسعى بجد واهتمام لمعرفة الإجابة عنها..

فكنا نذهب إلى الصيد في الساعة الثالثة ظهراً، أي بعد أن نحفظ دروسنا وهو الشرط الأساسي عند الأهل للسماح لنا بالخروج من البيت، ونعود عند غروب الشمس محمّلين بالصيد الوفير. والجميل ذكره في تلك الأيام الجميلة أننا في وقت الإجازات كنا نقيم حفل شواء كبيراً احتفالاً بذاك الصيد الوفير.

ملخص القول: إن أبناء الأمس كانوا يضربون أرض الله ذهابا وإيابا، دون تقييد كبير لحركتهم، وهو الأمر الذي علمهم الكثير من المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة، منها على سبيل المثال: التعاون والتآزر والاعتماد على النفس، فضلاً عن الثقة ومواجهة الصعاب وغيرها من هذه الأخلاقيات الحميدة والضرورية لحياة الفرد في البيت والعمل والمجتمع. إلا أن أبناء اليوم لم يحظوا بهذه الفرص الممتعة والمفيدة معاً.

إما لشدة خوف الوالدين على أبنائهم وهو ما يقيد حركتهم، وإما لتغير بعض مظاهر المجتمع الإماراتي القديم، كانتفاء ما يعرف بـ«الفريج» أو «الحي الواحد» الذي كنا نتذوق من خلاله حلاوة الجيرة الطيبة، فاليوم تجد الجار لا يعرف اسم جاره المحاذي لبيته، فكيف يمكن لأبناء الحي الواحد أن يجتمعوا في مثل هذه الظروف ويشكلوا رفقة طيبة.

أرجو ألا يفهم من حديثي هذا أنني أدعو إلى ترك الأبناء دون رقابة أو متابعة، فليس هذا ما أدعو إليه، فنحن متفهمون للوضع الذي بات عليه مجتمعنا اليوم، فالمجتمع في الإمارات عموماً آخذ بالاتساع، حيث تعددت فيه الجنسيات والثقافات، وهذا على الرغم من إيجابياته إلا أنه يؤثر بشكل أو بآخر في تربية أبنائنا..

أما الذي لا أفهمه ولا أتفق معه أيضاً، فهو ذلك الحرص الشديد أو «المرضي» الذي لا يدع للأبناء مجالاً للتنفس الوجداني والجمالي خارج منظومة البيت أو الأسرة الواحدة، إذ لا بد للفرد أن ينطلق إلى العالم الخارجي ليزداد علماً وخبرة في الحياة، فضلاً عن اكتسابه للصفات الطيبة والأصيلة، لممارسة حياة طبيعية ملؤها البذل والعطاء والثقة... إلخ.

إننا نعلم تمام العلم أن أبناء اليوم انحازوا إلى التكنولوجيا، فأصبحوا متهافتين عليها في أكثر أوقاتهم، بسبب من طبيعة الحياة المنغلقة التي يعيشونها في البيت، وهو ما ينذر بخطر كبير على تربية الأبناء التربية السليمة والقويمة. وعلاوة على ذلك.

فإننا نتمنى على الأهل أن يبثوا في نفوس أبنائهم الثقة والفاعلية المجتمعية من خلال إفساح المجال لهم للخروج من نطاق الأسرة والتكنولوجيا الحديثة على حد سواء، للانطلاق إلى سبر أغوار العالم الخارجي وارتياد آفاقه الرحبة مع قليل من الرقابة والمتابعة الجيدة بطبيعة الحال، كي نضمن لهم النجاح في حياتهم العملية، وبالتالي نكفل لهم حياة هانئة طيبة ناضجة عندما يكبرون.

 

Email