تطور الموقف الصيني تجاه الأزمة السورية

ت + ت - الحجم الطبيعي

منذ بداية الانتفاضة في سوريا، أدانت الصين رسميا المذابح المتكررة في أكثر من منطقة سورية، وأبدت قلقها من ارتفاع أعداد القتلى والجرحى الذي بات كبيرا جدا إلى جانب أزمة اقتصادية واجتماعية متفاقمة، وتدمير مبرمج للتراث الإنساني الرائع في هذا البلد العريق بحضارته الإنسانية.

لم تتبن الصين وجهة نظر النظام القائم ولا المعارضة متعددة الاتجاهات والارتباطات العربية والدولية، فأدانت العنف الدموي الذي مارسه الجانبان وأدى إلى تدويل الأزمة، وقطع الطريق على أي مبادرة سياسية لحل داخلي يقوم به السوريون.

تمسكت الصين بموقف ثابت تجاه الأزمة يقوم على وقف العنف فورا، والدخول في حوار سياسي بين السلطة والمعارضة، فالحل السياسي هو الطريق الوحيد الممكن للخروج من أزمة شاملة تهدد منطقة الشرق الأوسط بأكملها. ودعت الدول المعنية بالأزمة إلى دعم جهود الأمم المتحدة لوقف شلال الدم في سوريا، ومنع الانزلاق نحو استخدام الأسلحة الثقيلة في المناطق السكنية، أو التهديد باستخدام أسلحة كيميائية، وأسلحة دمار شامل.

لكن الوضع الإنساني في سوريا استمر في التدهور إلى أن بلغ مؤخرا مرحلة الخطورة القصوى، بسبب الاشتباكات الدموية المتواصلة التي أدت إلى خسائر بشرية كبيرة، وأضرار مادية جسيمة في البنى التحتية. فتفاقمت الأوضاع المعيشية للشعب السوري، الذي بات موزعا بين منكوب، ومعوق، وجائع، ومهجر، وخائف. وقد ناشدت الصين الحكومة السورية مرارا لكي تتعاون مع منظمات الإغاثة الدولية، وقدمت مساعدات مستمرة إلى المنظمات المعنية، كاللجنة الدولية للصليب الأحمر، ووكالات الإغاثة الإنسانية داخل سوريا، لعملها في ظروف صعبة للغاية، ورصدت مبالغ مالية هامة للدول التي تعنى بالنازحين السوريين على أراضيها.

تمسكت الصين دوما بالحل السلمي للأزمة السورية، انطلاقا من المبادئ الإنسانية في التعاطي مع الأزمات التي تطال شعبا بأكمله. وعملت على التخفيف من آلام الشعب السوري، ورفضت مد المتقاتلين بالأسلحة لأن ذلك يقود إلى إطالة الحرب وتضخيم حجم المأساة، وطالبت بتضامن دولي فاعل لإيجاد حل سياسي للأزمة في أسرع وقت ممكن، ودعت إلى احترام سيادة سوريا واستقلالها ووحدة أراضيها، ورفضت الحل العسكري وكل أشكال التدخل الخارجي. وأعربت خارجية الصين مرارا عن قلقها من احتمال انتشار العنف إلى الدول المجاورة، في حال استمرت الأزمة السورية دون حل.

دعت الصين المجتمع الدولي إلى دعم جهود الوساطة التي بذلها المبعوث الخاص للأمم المتحدة، السابق كوفي أنان والحالي الأخضر الإبراهيمي، لإنهاء العنف في سوريا، بمشاركة السوريين أنفسهم. وعندما زار الإبراهيمي الصين مؤخرا طالبها بتقديم حلول عملية للأزمة السورية، في حين حذرت جامعة الدول العربية من انهيار قريب لسوريا ما لم تنجح الدول الكبرى في إيجاد حلول سريعة لهذه الأزمة المتفجرة.

فاستغلت الخارجية الصينية الدعوة لكي تقدم مبادرة مدروسة من أربع نقاط، لحل الأزمة بصورة سلمية ومتدرجة على مراحل عدة، وبث التلفزيون المركزي الصيني الاقتراح الرباعي الذي عرضه وزير الخارجية، يانغ جيشي، على الإبراهيمي، وتضمن ما يلي:

أولا؛ تعمل الأطراف المعنية بالأزمة في سوريا على وقف العنف بصورة تدريجية، والتعاون مع جهود الإبراهيمي، على أن يتم وقف النار على مراحل في منطقة بعد أخرى.

ثانيا؛ ينتدب كل طرف مفوضين عنه يتولون معا، بمساعدة الإبراهيمي ومنظمات المجتمع الدولي المعنية، وضع خارطة طريق للانتقال السياسي في سوريا، عبر مشاورات مكثفة يقوم بها مجلس انتقالي يضم أكبر نسبة ممكنة من الأطراف المتنازعة.

ثالثا؛ يدعم المجتمع الدولي جهود الإبراهيمي لإحراز تقدم حقيقي في تنفيذ بيان مؤتمر جنيف، والخطة السداسية للمبعوث الخاص السابق كوفي أنان، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالأزمة السورية.

رابعا؛ دعوة جميع الأطراف المعنية بالأزمة السورية، إلى اتخاذ خطوات عملية ملموسة على أرض الواقع لتخفيف المعاناة الإنسانية في سوريا.

استندت المبادرة الصينية ببنودها الأربعة، إلى مبادئ فلسفية تعتمدها الصين بصورة جلية في معالجة مشكلاتها الداخلية بين القوميات والأديان المختلفة، وفي علاقاتها الإقليمية لحل قضايا الحدود المشتركة والمتنازع عليها بالطرق السلمية. واستندت أيضا إلى مبادئ الأمم المتحدة، وخبرة المنظمات الدولية في حل النزاعات، والسعي إلى بناء عولمة أكثر إنسانية. فقد فشلت العولمة الأميركية ذات القطب الواحد، بعد أن بنيت على مقولات ثقافية سطحية، أبرزها: نهاية التاريخ، وصراع الحضارات، والحرب على الإرهاب، وفرض الديمقراطية الغربية على الدول الأخرى، وتغيير الأنظمة السياسية الممانعة بالقوة العسكرية الخارجية.

أوضح وزير خارجية الصين في تقديم مبادرته، أن غالبية دول العالم باتت تدرك جيدا أن الخيار العسكري لم يقدم حلا لأي أزمة، وأن التوصل إلى تسوية سياسية يتطلب تعاونا مشتركا بين الأطراف المعنية. وتهدف المبادرة الصينية الجديدة إلى بناء توافق دولي، ودعم جهود الوساطة التي يبذلها الإبراهيمي، ودفع الأطراف السورية إلى وقف إطلاق النار وإنهاء العنف، وإطلاق عملية الحل السياسي بقيادة السوريين أنفسهم دون تدخل خارجي.

شكل الاقتراح نقلة نوعية في موقف الصين من الأزمة السورية، فليس أمام السوريين سوى الحلول الدبلوماسية، لأن استمرار النزاع الدموي يقود حتما إلى دمار سوريا. وقد دخل الجميع في نفق مظلم منذ فترة طويلة، ولا بد من إيجاد مخرج بمساعدة عربية ودولية، عبر خطوات ملموسة لتخفيف معاناة الشعب السوري. ونظرا لمصالح الصين الكبيرة في منطقة الشرق الأوسط، وحاجة اقتصادها إلى النفط العربي لاستمرار تطورها الاقتصادي والاجتماعي، يعمل الصينيون من أجل استقرار المنطقة العربية التي تعتبر بالنسبة إليهم مجالا حيويا للاستثمار المالي والتبادل التجاري، فشكلت دعوة الإبراهيمي حافزا هاما لكي تطلق الصين مبادرة سياسية تعزز موقعها في المنطقة العربية.

ختاما، تبدو مبادرة الصين لحل الأزمة السورية، أكثر عقلانية من الموقف الروسي المتشدد حيال بقاء الرئيس السوري في سدة الحكم، وتضمنت خطوات عملية تتم على مراحل، تبدأ بوقف إطلاق النار بصورة تدريجية في المناطق السورية، وتتزامن مع تشكيل مجلس رسمي يتمتع بصلاحيات حكومة انتقالية، لتنفيذ البنود الستة لخطة المبعوث الدولي السابق كوفي أنان، والقرارات الصادرة عن مجلس الأمن، وبيان جنيف لوزراء خارجية مجموعة العمل حول سوريا.

لكن المبادرة الصينية تقاطعت مع المبادرة الروسية حول ضرورة تطبيق بيان جنيف، واعتبار السوريين أصحاب القرار النهائي في تحديد مستقبل بلادهم دون تدخل خارجي. فهل يكتب لها النجاح وسط هذا الاصطفاف الحاد تجاه الأزمة السورية؟

 

Email