العنصرية العرقية والرئاسة الأميركية

ت + ت - الحجم الطبيعي

وقت ظهور هذه الكلمات للنور تكون الانتخابات الرئاسية الأميركية قد أخذت مجراها النهائي، وربما تم الإعلان عن اسم المرشح الفائز بالرئاسة الأميركية للسنوات الأربع القادمة، غير أن بعداً جديداً كشفت عنه أحداث الحملة الانتخابية الرئاسية، أكد ويؤكد أن أميركا ليست المجتمع الطهراني اليوتوبي والأنموذج الأمثل أو "المدينة فوق جبل لكل دول العالم".

يتعلق ذلك بإشكالية العنصرية والتمييز العرقي، ما بين الأميركيين البيض والأميركيين من أصل إفريقي "السود"، وهي إشكالية خيل للجميع أنها ولت الأدبار منذ خمسة عقود، لكن واقع الحال يقول بأنها قائمة بالفعل.

كان الجميع يظن كذلك أن وصول رئيس من أصل إفريقي إلى مقعد الرئاسة، هو دلالة تامة وكاملة على أن لا أحد بعد يفاضل بين الأميركيين على أساس لون البشرة، لكن استطلاعاً أخيراً أجرته وكالة الاسوشيتدبرس جاءت نتائجه تخالف ذاك التوقع، إذ أظهرت أنه لم يطرأ أي تحسن على الاتجاهات العنصرية في السنوات الأربع الأخيرة، أي فترة ولاية أوباما الأولى، لا سيما وأن أغلبية طفيفة من الأميركيين تحمل حتى الساعة مشاعر تحيز عنصرية تجاه السود، سواء اعترفوا بذلك أم أنكروا.

هل كان انتخاب أوباما نهاية عصر العنصرية وإعلاناً للمساواة المطلقة مع الرجل الأبيض؟

يرى البروفيسور "ليونارد ستاينهورن"، الأستاذ في الجامعة الأميركية في واشنطن وصاحب كتاب حول العلاقات العرقية، أن "إحراز تقدم لا يعني التغاضي عن مخلفات الرق والعنصرية". وفي نفس الوقت تكشف دراسة أجرتها جامعة شيكاغو، أن 60٪ من الشبان السود يشعرون بأنهم منبوذون من المجتمع الأميركي.

والثابت كذلك أن كثيراً من المحللين والمدققين في الشأن الأميركي، وعلى عكس ما هو شائع وذائع، يرون أن انتخاب أوباما إنما كان دلالة لا تقبل الشك على أن المجتمع الأميركي لا يزال رازحاً تحت أغلال العنصرية، فتصويت السود في انتخابات 2008 بأغلبية كاسحة وشبه مطلقة لأوباما، يؤكد أن معيار الاختيار عرقي، وإن حاولوا تعليل ذلك بأنهم يريدون معالجة التفاوت في الرعاية الصحية والدخل والعدالة والتعليم.

إلام يعزى إذن فوز أوباما في ولايته الأولى؟ لقد دعمت الأقدار ترشح أوباما في انتخابات مجلس الشيوخ عام 2004، بسبب انسحاب اثنين من أشد منافسيه لأسباب تتعلق بفضائح جنسية، الأمر الذي مكنه من الفوز بعد أن كان يحتل مكاناً متأخراً في استطلاعات الرأي.

وفي ترشيح الديمقراطيين لممثلهم للرئاسة عام 2008، استطاع أوباما أن يعظم من أخطاء هيلاري كلينتون ليحظى بترشيح حزبه، ويستغل أخطاء جون ماكين لينهي آماله في الوصول للرئاسة. هناك كذلك أجواء عامة دعمت ترشحه، بل وفوزه، وفي مقدمتها الأزمة الاقتصادية التي جعلت الأميركيين يقبلون على انتخابه، لثقتهم في أنه أفضل من ماكين في مواجهتها..

هل يعني ذلك أن العنصرية كانت متخفية وراء تلك الأسباب؟ حتماً أن ذلك كذلك، لا سيما وأن العنصرية كادت أن تذهب بحياة أوباما أكثر من مرة، والعهدة هنا على الراوي "رونالد كيسلر" مؤلف كتاب "في الخدمة السرية للرئيس"، وفيه كشف عن أن الرئيس أوباما يتلقى يومياً أكثر من ثلاثين تهديداً بالقتل، وأنه يخضع لحماية جهاز مخابرات خاص ضعيف الموارد. والمثير للدهشة، أن التهديدات الموجهة لأوباما زادت بمعدل 400٪ عن تلك التي كان يتلقاها بوش الابن.

 هذه القراءات أكدتها صحيفة التليغراف، وأشارت بالتحديد إلى مؤامرات أعدها عنصريون بيض في ولاية تينيسي، لسرقة متجر أسلحة وإعدام ثمانية وثمانين مواطناً أسود رمياً بالرصاص، وضرب أعناق أربعة عشر آخرين ثم اغتيال أوباما.

ومما لا شك فيه أن العنصرية قائمة حتى الساعة حتى في قلب واشنطن ديمغرافياً، وعلى غير المصدق أن يذهب إلى العاصمة الأميركية ليجدها منقسمة بشكل غير عادي، رغم أن ثلثي سكانها من الأميركيين الأفارقة، ذلك أن حديقة "روك كريك" تشطر واشنطن شطرين من الشمال إلى الجنوب، ففي الشمال من العاصمة 90٪ من البيض وفي الجنوب 90٪ من السود، وهذا أمر يستتبعه مستوى خدمات إما متميزاً عند البيض أو متدنياً عند السود، وحتى العام 1964 كانت صكوك الملكية العقارية في شمال غرب واشنطن، تتضمن تعهداً يمنع بيع ذلك العقار إلى أميركي من أصل إفريقي، كما يقول الدكتور جيمس زغبي رئيس المعهد العربي الأميركي في واشنطن.

لا تتوقف مشاهد العنصرية عند عوام الأميركيين، بل تمتد كذلك إلى النخبة والصفوة أحياناً.. هل من مثال؟ مؤخراً اتخذ الجنرال المتقاعد كولن باول موقفاً داعماً لباراك أوباما كما فعل في 2008، وهو الأمر الذي دعا جون سنونو القيادي الجمهوري البارز والمؤيد بشراسة لرومني، لأن يعلق مشيراً إلى أن باول أيد أوباما لأنه "من نفس عرقه"؛ أي أسود مثله.. هل الأمر "زلة لسان" أم أن العقل الباطن كثيراً ما يفضح صاحبه في غفلة من الوعي واليقظة؟

عودة للسؤال المتقدم؛ هل للعنصرية تأثير هذه المرة على أوباما؟ أغلب الظن؛ لا، لأسباب كثيرة أولها أن أزمة الإعصار ساندي دعمت أوباما بشكل معجزي، لا سيما وأنه بدا كوطني متماسك يقدم مصالح المضارين على حملته الانتخابية ومنفعته الخاصة، عطفاً على الضعف العام الذي يلم الجمهوريين وعدم كاريزمية رومني، بجانب ضعف أصوات اليمين الأصولي المتشدد هذه المرة بخلاف انتخابات 2000 و2004، ونجاح الحزب الديمقراطي في جذب أعداد غفيرة من الشباب والأقليات.. ومع ذلك تبقى العنصرية ضاربة جذورها حتى في زمن الانتخابات الرئاسية الأميركية.

 

Email