الهدنة... والمبادرة الساذجة

ت + ت - الحجم الطبيعي

وقالوا: اذبحوا واذبحوا

ثم قالوا هي الحرب كرٌ وفرُ

ثم فروا وفروا وفروا

وتباهوا.. وتباهوا...

هكذا وصف الشاعر محمود درويش حال العرب قبيل هزيمة حزيران وبعدها، ويبدو أن هذا الوصف ينطبق تماماً على الموقف العربي والدولي الحالي من الأزمة السورية، وبتعبير أكثر صراحة، على الموقف من المذابح التي تجري في سوريا، والتي رأى المبعوث الدولي العربي الأخضر الإبراهيمي، أن هدنة من أربعة أيام، تنطلق من موقف أخلاقي لدى الأطراف المعنية، كفيلة بإيجاد الأرضية المناسبة للبناء عليها، وصولاً إلى حل للأزمة، دون أي اتفاقات مسؤولة وملزمة بين الأطراف الداخلية.

وبدون تعهدات مماثلة من المجتمع الدولي (مجلس الأمن ومنظماته والأمانة العامة للأمم المتحدة) أو من الدول الكبرى، التي صار واضحاً أنها تتصارع في سوريا وعليها، وأن مصالحها هي المؤشر الأساس لها لتلتزم بهذا الاقتراح أو ذاك أوبهذه المبادرة أوتلك.

كما صار مؤكداً أن جميع هذه الأطراف، امتدحت مشروع الهدنة، وشجعت عليها، واعتبرتها بداية عمل جاد في سوريا، وهي تعلم أن تأثيرها في حل المعضلة السورية لن يكون هاماً، بل لادور لهذه الهدنة في الحل النهائي سواء نجحت أم فشلت، لأن الأزمة السورية أكثر تعقيداً من أن تفتح أبوابها هكذا هدنة، وبالتالي فإن جميع الأطراف تعرف ذلك، إلا أنها كانت تنتظر أن تمنحها الهدنة مهلة، وأن تشغل جزئياً الوقت الضائع.

وتقول لشعوبها وللرأي العام العالمي وللشعب السوري ، أنها تهتم بالشأن السوري وتأخذ مصالحه بعين الاعتبار، ولم تُدر الظهر له كما يقول ويقال، ولم تفقد اهتمامها به، وربما لم يكن المبعوث العربي الدولي الأخضر الإبراهيمي بعيداً عن هذا الهدف،وكان يعلم ـ علم اليقين ـ أن مشروع الهدنة لن ينجح من جهة، وإن نجح فلن يكون سوى عمل أخلاقي طارئ لا يمكنه أن يساهم في تراكم الشروط الموضوعية للوصول إلى حل.

لا أظن أن الأطراف المعنية، من مجلس الأمن إلى الجامعة العربية إلى الدول الكبرى، فضلاً عن الأطراف السورية المتعددة، تعتقد أن أزمة كهذه يمكن أن تحل بالنوايا الحسنة والمواقف الأخلاقية واستناداً إلى قرارات ذاتية يتخذها كل طرف بنفسه، دون أن تكون هناك اتفاقيات واضحة وموقعة من جميع الأطراف، تحدد أهداف الهدنة، ومضمونها، وآلية تطبيقها، والتزام الجميع بتطبيقها، وتحديد مناطق هيمنة و(سيادة) كل طرف، وخط الحدود الفاصل بين الأطراف المتقاتلة، وتسمية الجهة أو الجهات الضامنة للهدنة، والجهات المراقبة، وغيرها.

إنه لو تحققت كل هذه الشروط لصحت توقعات الأخضر الإبراهيمي وتمنياته أن تكون الهدنة أساساً يمكن أن يبنى عليه، أما الاعتماد على التمنيات الموجهة لجميع الأطراف، وعلى المبادرات الأخلاقية، فإنها دون شك، صرخة في واد، وقبض للريح، وهذا ما حصل فعلاً، حيث أكدت (الهدنة) المفترضة ما كان مؤكداً.

وهو أن الأزمة السورية لم تعد بالبساطة التي يحلها موقف أخلاقي، أو إجراء متسرع، وإنما هي أكثر تعقيداً من أن تحلها هدنة، أوتفككها تصريحات ونوايا حسنة، أو حتى ضغوط طارئة غير منهجية، فالحل يكاد يكون عاتياً على التسويات والحلول الوسط والتمنيات، بعد أن دُولت الأزمة، وتعسكر الصراع.

وارتكبت المجازر، وسالت الدماء، وللأسف ما زال ذوو الشأن في الخارج، ينتظرون ويراهنون على الوقت، ويلعبون بالوقت الضائع، ويتذرعون بالانتخابات الأمريكية مرة، وتبعثر المعارضة السورية (السياسية والمسلحة) مرة أخرى، والخوف من انتقال الأسلحة إلى القاعدة مرة ثالثة، وبغيرها من المبررات، التي لم تعد تقنع أحداً من المعارضة السورية على مختلف فصائلها.

ومن الشعب السوري على مختلف تياراته السياسية والاجتماعية، ولذلك اعتبر الشعب السوري وفصائل المعارضة أن مقترح الهدنة غير جاد ولا ينتظر منه أمل كبير، فالأزمة أكبر منه، والصراع أعمق وأوسع من أن يحُل (ببوس اللحى) أو بالتمنيات أو الأخلاق الحسنة.

فقد تشرد (داخلياً وخارجياً) أكثر من ثلاثة ملايين سوري، وخسر الشعب السوري عشرات الألوف من أبنائه شهداء ومفقودين، إضافة إلى مئات الألوف من الجرحى (قسم كبير منهم أصبح معاقاً) وأكثر من مائة ألف سجين، وبعد هذا، فمن العبث، والسطحية والسذاجة القول بإمكان هدنة طارئة أن تفتح الباب لحل جاد، مهما كانت مضامينه متواضعة .

لقد تراجع الموقف العربي والدولي من الأزمة السورية ولنقل (المجزرة السورية) تراجعاً واضحاً ومتسارعاً، فقد نادى في بدء الثورة بأنه سيلزم النظام السوري بقبول المطالب الشعبية ، ثم هدد بالتدخل السياسي والعسكري.

ثم تبنى مبادرة كوفي عنان، ثم تراجع إلى قرارات مؤتمر جنيف، ثم أخيراً إلى مشروع هدنة الإبراهيمي الذي لا أهمية له حتى لو تحقق، أي كما قال الشاعر محمود درويش، ثم قالوا الحرب كر وفر ثم فروا وفروا وفروا.

والشعب السوري ينوء بحمله، ويتلقى طعنات نظامه، ويئن تحت مجازره، ويوقن أن القريب والبعيد تخلى عنه، بعد أن تم تدويل قضيته فأصبح ينتظر حلها من الخارج، وهولا يلوي على شيء، فلم تبق قضيته بين يديه ليجد لها حلاً وكان يستطيع ذلك، ولم يحلها التدويل والدول الأخرى، سواء كانت صديقة أم لم تكن، وغدا هذا الشعب كمن أراد أن يعايد أقرباءه في قريتين متجاورتين.

فأمضى وقته على الطريق ولم يعايد أحداً، وهوـ أي الشعب السوري ـ يرجو أن لا يستمر المناخ العربي والدولي المتراجع ، وأن تعود الجدية والمسؤولية والالتزام إلى المجتمع الدولي، كي تنتهي سياسة انتظار تبديد الوقت، واللعب خارج رقعة الشطرنج .

 

Email