ماذا فعلت النيوليبرالية بسيادات الدول حتى جعلتها واهنة كتمثالٍ من شمع لا يلبث أن يتلاشى أمام جحيمها المفتوح؟ سؤالٌ لم تعد هواجسه تقتصر على ما اتّفق عليه ببلدان العالم الثالث، وإنما صار مبعث قلقٍ عميق حتى في قلب الغرب وهندسته الاقتصادية العريقة. ولا أدَلُّ على هذا من العواصف المتعاقبة التي تضرب أميركا ودول الاتحاد الأوروبي منذ بدايات القرن الجاري. لكن ماذا لو تابعنا حركة النقاش التي تتركز اليوم وعلى نطاق عالمي حول ضرورة إعادة الاعتبار لما اصطلح على تسميته بدولة الرعاية؟
مرَّ زمن لم يعد الكلام عن الدولة (الأمة) فيه يحظى بمساحة النقاش التي اعتاد العالم عليها خلال العقود المنصرمة. كان ذلك إثر التحول المدوِّي الذي عصف بالسيادات الوطنية مع نهاية القرن العشرين. آنذاك كانت كل الدلائل التي رافقت ظهور الاندماجات العالمية بصيغتها الجديدة، تشير إلى تراجع مفهوم الدولة، مثلما تدل على تهافت مكانتها على الصعيدين القومي والعالمي. وهذه الحقيقة لم تقتصر على دول بعينها، وإنما طاولت جميع الدول، وإن بنسب متفاوتة ومتباينة تبعاً لدرجة تطور كل دولة وانخراطها في النظام العالمي.
وإذا كانت «العولمة» قد أدخلت الغرب في مواجهة مع نفسه، ولاسيما لجهة التصادم بين مفهوم الدولة القومية وحرية السوق، فقد بدا مبدأ السيادة في الدول النامية أو الفقيرة هزيلاً للغاية. والسبب في ذلك عائد إلى أن النظريات السياسية التي أطلقتها العولمة الغربية عمَّمت قيمها على نظم سياسية طرفية لم تكن ثقافاتها تتوافق دائماً مع التكوين الثقافي للقانون الدستوري الغربي.
وهي الدول نفسها التي كشف سير عملها الحقيقي عن علامات التبعية والموالاة. غير أن هذا المبدأ سينهار تماماً حين يجري إثبات أن الإنتاج الإعلامي للدول غير الغربية لا يستطيع منافسة ذلك الإنتاج الوارد من الخارج على أرض هذه الدول الخاصة.
ويكشف الجدل حول تدفق الاتصال عن تناقض بقدر ما يكشف عن عجز. التناقض بين منهج موالاة الدول التي لا تستطيع الذهاب إلى حد المجازفة بأدنى حد من إشراف الحكام على تنشئة المحكومين،أما العجز فهو إخفاق الدول الطرفية في منع تدفقات الاتصال التي تتعلق إلى حد كبير بفاعلين خاصين منتشرين إلى حد ما، ولا يتحلُّون بصفات المشاركة الدولية، كما لا يوجد لديهم باعث على الامتثال للنظام الجديد المبتغى.
غير أن تهافت الحدود والضوابط بين الدول بسبب من إستشراء الغزوات الاقتصادية والمالية، سيؤدي إلى نضوب أموال الدولة. ذلك أن فعالية الاقتصاد العابر للحدود لا ينعكس في جانب الإيرادات فحسب. فالأممية الجديدة تستحوذ على حصة متزايدة من الإنفاق الحكومي أيضاً، ثم إن التسابق المدمِّر والجنوني على إعطاء الدعم المالي إلى الشركات الكبرى، مقروناً بالتنافس على دفع أدنى الضرائب، يميطان اللثام عن تخبُّط السياسات الحكومية في متاهات الاقتصاد المعولم.
في حين أن الضغط الذي تعززه المنافسة الدولية، يدفع تلك الحكومات إلى تقديم إغراءات مالية، لا تبررها المعايير الموضوعية، حسب ما أكد مؤتمر منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، في وقت سابق. في حين يؤكد خبراء الأمم المتحدة أن إيجاد طرق جديدة «تقي من هذا الشطط» قد أمسى غاية ملحة جداً.
لكن، كيف يتبدَّى وهن الدولة الآن؟
لقد أصبح من الأمور البديهية بعد التحول العالمي الذي حدث في العقود الثلاثة المنصرمة، أن مبدأ السيادة لم يعد يخضع للمعايير نفسها التي حددتها قواعد اللعبة الدولية قبل نهاية الحرب الباردة. إذ ليس من الضروري أن يكون أحد المجتمعات مستعمراً لكي يمكننا إثبات أنه تابع لمجتمع آخر.
ولا يكفي لإحدى الدول أن تحوز على مقعد في الأمم المتحدة لكي تدَّعي - بعيداً عن الشكليات القانونية - بأنها تمارس سيادة كاملة. إن معرفة الآليات التي عصفت بسيادة الدول سوف تتيح حل لغز السلطة في العلاقات الدولية، وبعبارة أخرى فإن هذه المعرفة ستؤدي إلى إدراك كيفية مغادرة شواطئ البلدان المهيمنة على النظام الدولي.
وفي اعتقاد عدد من خبراء السياسة الدولية، إن عوامل مركزية عدة ساهمت في تعزيز التدهور الذي أصاب سيادات الدول في الحقبة الأخيرة، ويمكن هنا ملاحظة ثلاثة عوامل منها:
أولاً- الاضطراب المتعاظم في كل مفردات حياتنا - بما في ذلك الاضطراب الذي تواجهه الدولة - ينبع أساساً من فقدان الاتساق المعرفي. إذ تسيطر على الفرد ثلاثة أبعاد متفاعلة: في أولها البيئة التي ينتمي إليها، وثانيها نمط السلوك الذي اعتاده والذي يقوم به. وثالثها المعلومات التي ترسَّبت في داخله وتلك التي يحصل عليها. وتبعاً لهذا يظهر المأزق عندما تتضارب المعطيات الثلاثة المذكورة.
ثانياً- نزعة التمركز الاقتصادي التي تستند إلى سيطرة الشركات المتعددة الجنسية على حركة التجارة العالمية وعلى الإنتاج العالمي. فهناك نحو 500 شركة تسيطر على 80 في المئة من إنتاج العالم و75 في المئة من تجارته، ثم جاءت الفضاءات الاقتصادية التي ارتكزت على التكتلات الاقتصادية الإقليمية لتعزز هذه النزعة في التمركز الاقتصادي وهي التي أسفرت بالتالي عن انتزاع قدرة الدولة على القيام بوظيفتها الأساسية لجهة تشكيل مجتمع الرفاه، مثلما أفقدتها القدرة على تحقيق التوزيع العادل.
ثالثاً- إن ما يقابل نزعة التمركز الاقتصادي ويسير إلى جانبها، هو نزعة التثبت الاجتماعي التي أفقدت الدولة قدرتها على تحقيق التماسك وكذلك على إحداث الشلل في سلطاتها المختلفة. لقد أنتجت التحولات الأخيرة دولة واهنة، مضطربة، تطوقها غزوات رأس المال من كل جانب، بينما تظهر على خط مواز مشاعر الخوف العام من اضمحلال الدولة.
إذا كانت هذه السمات الانكفائية لدولة العولمة قد طبعت مرحلة عالمية بطابعها على امتداد عقدين متتاليين، فالذي يبدو الآن هو عودة الجدل حول دولة الرعاية إلى سيرته الأولى. فذلك ما يشي به الحراك الفكري والثقافي وحتى الفلسفي في أوروبا والولايات المتحدة اليوم، ناهيك عن الحراك المركب والمتعاظم في عالمنا العربي والإسلامي.