العيد في سوريا

ت + ت - الحجم الطبيعي

ينتظر الناس العيد في البلدان الإسلامية باستبشار وآمال كبيرة، حتى مع معرفتهم أنه لن يشكل تغييراً كبيراً في حياتهم، بل ربما يحمل معه أعباء مالية وخاصة للفقراء، وإنما هم يوهمون أنفسهم أنه يحمل الخير دائماً، ويكون فرصة لتجديد التواصل بين الأهل والجيران والأصدقاء، وتمتين صلة الرحم. والعيد في كل الأحوال فرحة حقيقية بالنسبة للأطفال.

وخاصة أطفال الفقراء، الذين عادة ما يجدد أهلهم لهم ثيابهم مرة واحدة في كل عيد جزئياً أو كلياً، ويجدونه فرصة للعب والتسلية وشراء ما يريدون من الأشياء الصغيرة التي تسرهم، وركوب (المرجوحات)، وزيارة الحدائق العامة، فضلاً عن لبس الجديد، وهو ظاهرة يحيط بها الفرح لدى هؤلاء الصغار، ولدى الفقراء عامة صغاراً وكباراً. حيث يشكل العيد عادة في البلاد الإسلامية مناسبة لتواصل الأهل مع بناتهم أو أبنائهم أو أقربائهم البعيدين عنهم، وفرصة لإزالة سوء التفاهم بين الأهل والأقرباء إن كان موجوداً، وهو بكل المقاييس مناسبة مهمة دورية تحمل معها الفرح والراحة وأحياناً الآمال العريضة.

يذكرنا العيد وطقوس العيد ومظاهره وآلياته ونتائج حراك الناس فيه، بالحال السوري القائم الآن، حيث أكثر من مليونين ونصف المليون من السوريين نزحوا عن بيوتهم قسراً، ولجؤوا إما إلى أصدقاء، أو افترشوا الساحات العامة والشوارع الخلفية والأرض الفراغ هنا وهناك، والتحفوا السماء، بعد أن خسروا بيوتهم وأرزاقهم ودخولهم (وتحويشة العمر)، وعادوا.

كما ولدتهم أمهاتهم لا يملكون شيئاً ولا يلوون على شيء، وقد فقدوا خمسة وثلاثين ألف قتيل على الأقل، ومثلهم من المفقودين، وضعف هذا العدد من المعتقلين، ومئات الألوف من الجرحى والمعاقين، نتيجة القصف والتدمير والقمع والتعذيب. وفي الوقت نفسه، لا يرى كل هؤلاء أي أفق أو نافذة يمكن أن تكون إيذاناً بانفراج الأزمة في وقت قريب، ولنا أن نتصور رب العائلة السوري الذي لا يجد غذاءً لأبنائه، ولا مدرسة تحتويهم..

ولا سقفاً يأويهم، بل ولا لباساً يقيهم برد الشتاء الذي حل، ومع ذلك عليه أن يحتفل بالعيد هو وأولاده وأقرباؤه وأصدقاؤه، ويتجاهل أصوات القصف حوله على الأحياء السكنية في القرى والبلدات والمدن، وصور القتلى والبيوت المهدمة وأخبار النازحين من بيوتهم بعد أن حلت مجازر بهم وبأهلهم، ويتداخل هذا كله مع واجبات العيد وطقوسه بحيث لا يترك للسوري حتى متعة تخيل مناخ العيد مجرد تخيل، ولا لأطفاله الذين لا يعون ما يجري حولهم متعة لبس قميص جديد أو حذاء نصف جديد.

والتمتع بشراء بعض (البالونات) أو الألعاب الرخيصة أو قطع الحلوى المغشوشة، أو حتى اللعب بالشوارع والحدائق بأمن وأمان بسبب الخوف من قصف طائرات الهليكوبتر أو الصواريخ العشوائية أو مدافع الهاون العمياء، أو حتى لاتقاء حماقات الجنود المسلحين الذين يقيمون حواجزهم في الشوارع وفي كل مكان، ولا يمنعهم أحد من إهانة الناس أو الاعتداء اللفظي عليهم أو حتى إطلاق الرصاص بلا سبب.

قضت تقاليد العيد الإسلامية على المسلمين ضرورة التحلي بالتسامح والمودة وصلة الرحم والتعاطف ومساعدة الفقراء في العيد (وفي غيره)، والامتناع عن العنف وإهانة الآخرين والاقتراب من إزعاج الغير أو اغتصاب أموالهم أو أملاكهم أو الاعتداء عليهم بأي وسيلة مادية أو معنوية، وصارت هذه التقاليد محترمة مستقرة شبه مقدسة في البلدان الإسلامية، ويشعر المسلمون عموماً، بعد مسار مئات السنين من ممارسة هذه الطقوس والتقاليد، بالأمان والاطمئنان أيام العيد، ويتناسون السلوك اليومي الذي يمارسونه في الأيام الأخرى.

إلا أننا نلاحظ أن هذه التقاليد والقيم والطقوس هجرت سوريا وابتعدت عن مخيلة السوريين وحياتهم وآلية عيشهم اليومية، وربما تجاهلوا أن العيد على الأبواب، فلم تعد تسمع السؤال التقليدي عن موعد يوم العيد، كما لم تعد النسوة السوريات يتحدثن عن الألبسة التي أعددنها لأنفسهن ولأبنائهن بمناسبة العيد، أو أنواع أطباق الأغذية الشهية التي هيأنها لهذه المناسبة.

وقد تكون في بعض الأحيان على حساب الخلل في مصروف البيت ودخل الأسرة في الشهر التالي، وكثيرات من سيدات الأسر السورية كن عادة يدخرن بعض المال لإنفاقه في العيد، وهذا ما حُرمن منه هذا العام لأنهن منذ أكثر من عام لم يشاهدن إلا التشرد والقصف والقتل والتهديم وسرقة البيوت وإحراقها والتهجير منها، وكأنهن في حرب دائمة ليس لها قرار. حتى غدا الخيال السوري عاجزاً عن تصور أيام سعيدة كما هي أيام العيد التقليدية، أما الأضاحي وخروف العيد وأكل اللحوم يوم العيد (وهو التقليد القديم الذي كان يمارسه الفقراء والأغنياء) فلم يعد موجوداً بسبب الأزمة.

ومثله الخروج للنزهات أو لتناول الطعام في المطاعم المحيطة بالمدينة، أو عقد السهرات والاحتفالات في القرى والأرياف والمدن والأحياء الشعبية، فهذه كلها غدت من الأمور المتخيلة (في ذمة التاريخ) بل ربما لا يستطيع الخيال أن يحيط بها، فسلبيات الواقع السوري هي أكبر من أي خيال ومقبرة أي خيال أيضاً، وعلى السوريين أن يبكوا حالهم وظروفهم ومأساتهم، حيث لا يملكون شيئاً يساعدهم على حلها، خاصة وأنهم يعتقدون أن شعوب العالم كلها والدول كلها تناستهم وتركتهم يلقون سوء المصير.

لعل العرب يمطرون السوريين بأمنياتهم في النجاح بتجاوز المحنة التي يعيشونها، واستعادة حياتهم التي كانت، وبناء مستقبلهم، وتحقيق الأمن والأمان والسعادة والكرامة والحرية والديمقراطية وبناء الدولة الحديثة (فلتحسن النطق إن لم تحسن الحال).

 

Email