المشهد العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

خريطة الوطن العربي السياسية تثير القلق، وربما تقود إلى الإحباط، بعد أن كنا قبل عام ونيف في قمة تفاؤلنا. وربما أتى هذا القلق والإحباط من توقعاتنا الكبيرة بأن يحقق الربيع العربي آمالنا بحكومات ديمقراطية تمثل جميع التوجهات السياسية، وبأن تكون تلك الثورات هي تعبير حقيقي عن الجماهير العربية، التي تتوق منذ مدة طويلة إلى الحرية والعدالة الاجتماعية وحكم القانون، فضلاً عن التطور الاقتصادي واللحاق بالأمم المتقدمة.

وربما مصدر إحباطنا يكمن في سوء قراءتنا لمعطيات الواقع السياسي وقواه المشكلة بشكل سليم، أو بالأحرى ربما كان مصدر ذلك "سذاجتنا السياسية"، فـ"الإناء لا ينضح إلا بما فيه"، وإناؤنا السياسي كان (وما زال بالطبع) ممتلئاً بقوى وجماعات الإسلام السياسي، على اختلاف مشاربها وألوانها. وكنا نعلم علم اليقين ما هي طروحات تلك الجماعات، وما هي نظرتها للديمقراطية وللمواطنة، وكيف أن إيمانها بالانتخابات وصناديقها لا يعني إيمانها بتداول السلطة.

إذن، لا نلوم إلا أنفسنا، ولا بد من تعلم الدرس وأخذ العبرة مما جرى، وخاصة لأولئك المتعجلين من الجماعات المستنيرة، الذين يريدون أن يضعوا أيديهم في أيدي جماعات الإسلام السياسي لإحداث التغيير، هنا وهناك، سواء كان ذلك التغيير المراد به الإصلاح أو الثورة.. نقول لهؤلاء إن النتيجة معروفة ابتداء، وإن الثمن ستدفعونه أنتم والشعوب التي ستتحمل التضحيات. أما الفوز فسيكون من نصيب جماعات الإسلام السياسي، التي هيئت لها الأرضية لكي تفوز في نهاية المطاف. فهي تمتلك المال ببنوكها وجمعياتها الخيرية ومشاريعها الضخمة، وهي أيضاً تسيطر على عقول جماهير واسعة، وخاصة من الشباب.

وربما كان مصدر قلقنا وإحباطنا، أن الثورات العربية لم تحقق سوى إزالة رؤوس نظم العهد البائدة، أما جسمها الحقيقي فلم يمس بسوء. فها هي الثورة في اليمن لم تحدث التحول المطلوب، فأركان النظام البائد ما زالوا يمسكون بزمام الأمور أو هم في مواقع مفصلية وخاصة في الجيش والأمن، وها هو الحراك الجنوبي يعود ثانية للنشاط، وها هم أنصار القاعدة يعيثون فساداً في بعض مدن وقرى اليمن، وأخيراً وليس آخراً، ما نلاحظه من تجدد الاشتباكات بين السلفيين والحوثيين، مما قد ينبئ بحرب طائفية.

والحال ينطبق على ليبيا، التي تشهد أحداث عنف مؤسفة وفلتاناً أمنياً، وحملاً للسلاح من قبل أتباع جميع الفصائل، وخاصة الفصائل الإسلامية المتشددة، التي تهدد النظام الجديد، والتي أثبتت أحداث بنغازي الأخيرة، وهي الهجوم على السفارة الأميركية ومقتل السفير فيها، أنها ستلجأ إلى استخدام هذا السلاح لفرض رؤيتها، وهي تريد تطبيق الشريعة من خلال سلطتها، كما يجري حالياً في جمهورية مالي، لا من خلال مؤسسات الدولة، وهي ستقاوم الدولة إن أرادت بسط نفوذها وتجريدها من سلاحها.

ولم يكن أحد ليتوقع أن الثورة السورية ستأخذ هذا المجرى العنيف، لتتحول إلى "حرب أهلية" بما تحمل هذه الحرب من استقطابات طائفية في الداخل السوري وفي الجوار العربي والإقليمي. وبالطبع، لا أحد يعلم متى ستحسم هذه الثورة وبأي كيفية، ولكن ما يراه المرء أن الشعب السوري يدفع ثمناً غالياً لها؛ في الأنفس والأموال والبنى التحتية. وما نراه على شاشات التلفزة ونقرأه من تقارير، تؤكد جميعاً أن هذه الثورة (على الأرض وليس في الخارج) يهيمن عليها التيار الديني المتشدد، مما يجعل التنبؤ بعواقب الأمور معروفاً سلفاً، دون أن يعني ذلك عدم وقوفنا مع الشعب السوري في تطلعه إلى التغيير.

ونحن نسمع منذ مدة طلب بعض أطراف هذه الثورة من المجتمع الدولي التدخل العسكري، ولعل هذا يذكرنا بمثال ما جرى في العراق بعد دخول قوات التحالف إليه بقيادة الولايات المتحدة الأميركية في العام 2003، وذلك بطلب من بعض أطراف المعارضة العراقية، وما وَرَّث هذا التدخل من تركيبة حكومية عاجزة، قائمة على المحاصصة الطائفية بقيادة الأحزاب الدينية!

لا يدعونا هذا المشهد إلى اليأس، لأن "لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس"، بل يدعونا إلى الحذر، إذ ليس كل تغيير يؤدي إلى تحقيق حلمنا، الذي هو حلم المواطن العربي في العيش الكريم، في ظل سلطة تحترم حقوق الإنسان.

 

Email