يحتدم السؤال حول موقعية تركيا في الفضاء الإقليمي، إلى الحد الذي وضع حزب العدالة والتنمية داخل منطقة مكتظّة بقلق استثنائي حول المصير. وإذا كان لنا من توصيف لهذه المنطقة القلقة التي تعيشها النخبة الحاكمة في تركيا، لوجدناها تترجّح بين الصواب الاستراتيجي والخطأ الاستراتيجي. لنقرأ المشهد.. نجحت تركيا في الأعوام التي سبقت "الربيع العربي الدامي"، في أن تتحول إلى لاعب مؤثر.
فمارست أدوار القوة الناعمة، والوسيط في النزاعات، والمسافة الواحدة من الجميع، والحرص على الاستقرار والتفاعل الاقتصادي مع الجميع، وهو ما انعكس إيجابا على الداخل التركي وعلى صورة تركيا في المنطقة والعالم. لكن انقلاب تركيا على سياساتها، أطاح بالكثير من هذه الإنجازات. ويورد الخبراء جملة من المعطيات التي تشير إلى هذا الانقلاب، على الشكل التالي:
- سياسة "صفر مشكلات" تحولت إلى سياسة "صرف مشكلات"، أو سياسة "كلها مشكلات". لقد ساءت علاقات تركيا مع كل جوارها؛ من سوريا والعراق ولبنان وإيران، إلى روسيا، وصولا إلى قبرص وإسرائيل، فضلا عن أرمينيا.
- غابت سياسة الدور الوسيط، وباتت تركيا تحتاج إلى وسيط لحل مشكلاتها.
- انتقلت من دور القوة التي تتخذ مسافة واحدة من الجميع، إلى طرف مباشر في الصراعات بين الدول وداخل كل دولة.
- انتقلت من دور القوة الناعمة إلى القوة الخشنة التي تهدد الجميع، وباتت السياسة الخارجية أكثر أطلسية، وبالتالي أكثر ارتماء في أحضان الناتو.
- باتت السياسة التركية أكثر قرباً من واشنطن في كل المجالات..
- باتت السياسة التركية أكثر مذهبية، وأردوغان في ذلك، ولا سيما تجاه إيران، ينقلب على سياسات توازن عمرها منذ العام 1639 بين البلدين.
كان لا بد، تبعاً لكل هذه التحولات، أن يتراجع النفوذ التركي في المنطقة، وتتحول إلى طرف في الاصطفافات الإقليمية له طابع سياسي ومذهبي، وتخرج بالتالي تركيا من قوتها الأساسية كبلد له ميزة التعاون والتواصل مع الجميع.
في الخلاصة، فشلت سياسة العمق الاستراتيجي وانهارت سياسة تصفير المشكلات، وباتت تركيا في مأزق عدم القدرة على ترجمة طموحها أن تكون لاعباً أوحد في المنطقة، لا مجرد شريك للاعبين آخرين، وأن تكون جزءا من هوية المنطقة، لا مجرد تابع للسياسات الغربية. وبات من الضروري الاعتراف بأن خطأً استراتيجيا قد حصل في كل البناء الفكري للنظرية، التي حكمت السياسة الخارجية التركية منذ العام 2002 وحتى الآن.
هكذا سيبدو أنّ الاختبارات العسيرة والمضطربة لإسلام حزب العدالة والتنمية، آيلة إلى إعادة إنتاج مأزق الهوية والانتماء من جديد.
لقد أرادت الكمالية إجراء تحويل عميق في بنية المجتمع التاريخي التركي، وأن تنتقل بهذا المجتمع من كونه سليل إمبراطورية دينية متعددة القوميات استمرت 600 عام، إلى دولة علمانية حذفت من دستورها عبارات "الإسلام دين الدولة". ولعل المفارقة في العلمانية التركية، أنها مع ذلك مضت إلى استخدام الدين لتحقيق غايات سياسية من أجل الاحتفاظ بالسلطة.
الأهم من ذلك، أن السمة المميزة لعلاقة النظام السياسي بالدين، هي عدم تبلور ظاهرة تاريخية في تركيا يصح أن تسمى إسلاماً سياسياً. فالإسلام السياسي في تركيا، آثَر على الدوام العمل "تحت سقف النظام". قد تكون "الأسلمة" عند أهل هذه البيئة هدفاً يراودهم، لكن ممارستهم بقيت ضمن القواعد التي رسمها الدستور العلماني، بل إن الخطاب الإسلامي في كل مرحلة، كان يزداد اعتدالاً ويتجاوز أحياناً الخطاب العلماني حيال كثير من القضايا.
وهو ما يشير اليه الرئيس عبدالله غل في أحد خطاباته بالقول: "إن دخول الناس المتدينين في السياسة لم يكن بدافع إقامة دولة دينية"، بينما يذهب رفيقه رجب طيب أردوغان إلى أنه لا يريد دولة دينية، وأن وصف حزبه بالإسلامي هو إهانة للحزب وللإسلام، ثم ليعلن أنه يريد المحافظة على النظام العلماني بمعناه الحقيقي.
لقد كان النظام العلماني راسخاً إلى الحد الذي لم يستطع المسّ به، المجتمع المدني ذو الهوية الدينية، ولا الأحزاب والتيارات السياسية ذات الميل إلى إجراء مصالحة مع المناخ الديني.
وابتداءً من السبعينات أخذت مقولة الإسلام السياسي تظهر إلى الوجود، مع بروز نجم الدين أربكان في ساحة العمل السياسي، إلاّ أنه مع وصوله إلى السلطة عبر الانتخاب الديمقراطي في يونيو 1996، لم يفلح الإسلام السياسي في تجاوز خطابه التقليدي، الأمر الذي أتاح للعلمانية وجبهة العسكر أن تشدّ عليه الخناق وتسقطه.
فكان أن تأسس حزب العدالة والتنمية عام 2001 بزعامة أردوغان، لتبدأ حقبة تحول حقيقي في المشهد السياسي التركي، قوامها إجراء أقصى درجات الانسجام بين العلمانية والإسلام السياسي الصاعد.
لم يكن أمام "الإسلام السياسي" إلاّ أن يتكيّف مع العلمانية المتجذّرة في الدولة، لكي يغادر القيود المفروضة عليه، فكان تأسيس حزب العدالة والتنمية كعنوان مفصلي لتكيّف يجعله ابناً "غير شرعي" للنظام العلماني. وهكذا سيغطي هذا الحزب وجهه الديني، فيبتعد عن الشعارات التقليدية للإسلام السياسي، مقدماً نفسه كحزب قومي لكل تركيا.
هذا هو الطريق التركي الذي لم يكن سهلاً بأي حال من الأحوال. والسبب في ذلك هو النظام القانوني الصارم الذي وهب نفسه للعلمانية، وجعل تركيا قاعدة خارجية لحلف الناتو. وهكذا لم تنشأ دولة قانون، بل دولة لتطويع القوانين همّها الأساسي قمع الآراء غير المرغوبة، لكن الواقعة ستقع حين يعود السؤال عن هوية تركيا في "العهد الإسلامي المستحدث"، لتأخذ جرعة زائدة من الغموض. إزاء هذه الوضعية.
وبسبب استحالة تبلور إسلام سياسي قادر على احتواء العلمانية الحادة، لم يجد قادة "العدالة والتنمية" سوى البحث عن هوية خارج ثنائية الدين والعلمانية. هنا بالذات تولد إشكالية إضافية، فَلَسوف يتبيّن لنا كيف أن فلسفة "الإسلاميين الأتراك"، راحت تصاغ في ما يشبه منطقة الفراغ المفتوحة على اللّامتناهي.