لم أبتكر عنوان هذه المقالة الملفت للنظر، والذي يعبر عن التناقض العميق والتنافر الحاد بين "الثقافة" و"السلاح"، بين من يتأبط كتابا في العلن وبين من يخفي سلاحا تحت ردائه، بين من يعشق الحرية ويمتلك حس الحياة وإيقاعها الجميل وبين من يتلذذ بحجبها. قلة ممن هم في موقع المسؤولية من يعطي للثقافة قيمتها، لأن السياسة لا تتمكن من توظيف الثقافة لأجندتها، رغم أن رموز السياسة تحرص على التقرب من رموز الثقافة.

عندما صعد الحزب النازي في إبريل عام 1933 إلى سدة الحكم في ألمانيا، كتب الشاعر الألماني النازي هانس يوهست مسرحية عُرضت في الذكرى الرابعة والأربعين لميلاد الزعيم أدولف هتلر، وذلك للاحتفال بانتصار الحزب النازي في الانتخابات من جهة، ولتمجيد الأيديولوجية النازية من جهة أخرى. وقد ورد في تلك المسرحية نص على لسان أحد أبطالها، مفاده "كلما سمعت كلمة "ثقافة" تحسست مسدسي". ومنذ ذلك الحين ينسب هذا النص أحياناً لقائد سلاح الجو الألماني هيرمان غورنغ أبرز مساعدي هتلر، وينسب في أحيان أخرى لوزير الدعاية الألمانية جوزيف غوبلز، وينسب للزعيم النازي هتلر نفسه، حسب أهواء كتاب السيرة الذين أسهموا في وضع اللمسات على معالم تلك المرحلة من تاريخ الشعب الألماني.

والحقيقة أن هذا النص ليس لهذا الزعيم النازي أو ذاك، وهو ليس نصاً نازياً ينتمي إلى الحزب الذي أشرنا إليه فحسب، وإنما هو نص بليغ يعبر عن أيديولوجية تسلطية لا تعرف غير القوة الغاشمة لبسط هيمنتها. هذه الأيديولوجية قد تكون نابعة من جذور مختلفة: عرقية أو دينية أو مذهبية أو مناطقية. وقد أثبتت الأيام في عالمنا الشرق أوسطي، أنه على الرغم من ابتعادنا مسافة ما يقرب من قرن من الزمن عن ساعة ولادة النازية، ورغم هزيمتها عسكرياً في الحرب العالمية الثانية وتصفية قياداتها جسدياً في محاكمات نورنبرغ الشهيرة نهاية تلك الحرب، لا يزال هذا النص حياً في عقول أفراد وجماعات، أو ربما في أجندة أحزاب سياسية تعيش بين ظهرانينا، وتستهدف معالمنا ورموزنا الثقافية بين الحين والحين لتذكرنا بوجودها، مع فارق بسيط هو أن المسدس الذي زنر خصر غورنغ أو خصر غوبلز، لم يكن مزوداً بكاتم للصوت كما هي المسدسات التي يحملها النازيون الجدد، التي تغتال رموزنا الثقافية في العراق بأداء على درجة كبيرة من الفاعلية. فقد نجحت قوى الظلام في تصفية المئات من حملة الفكر واليراع، خاصة ممن كان له إسهام حضاري في إكساب الحياة قيما تنتصر للإنسان.

ولكن لم هذا العداء والكراهية للثقافة؟ ربما يحتاج الأمر لوضع تعريف لمعنى الثقافة، كي تصبح الإجابة عن التساؤل ميسرة بعض الشيء، ولكني لن أسعى في هذه السطور لذلك، فالثقافة لا تحبس في قفص من كلمات، بل أكتفي بالقول إن الثقافة هي جسر للتواصل مع الحياة، وهي لا تُعرَف إلا بانتماءاتها إلى الفضاءات الإنسانية التي لا حدود لأبعادها، لأنها ترتبط بأشد الأواصر مع القيم السامية والراقية التي يجد فيها الإنسان ملاذاً آمناً يكسبه التوازن من جهة، ويجد فيها كذلك طرائق سالكة للتواصل مع الآخرين من جهة أخرى، دون أن تكون هناك نقاط تفتيش عن هوية انتماء عرقي أو ديني أو مذهبي أو مناطقي.

الثقافة طريدة لاحقتها قوى الظلام في العراق على مدى العهود المنصرمة، وأجبر معظم روادها على الهجرة حاملين معهم آمالهم وأحلامهم إلى بلدان الغربة ،التي طرزوا مقابرها بأجسادهم حين وافتهم المنية هناك.

وإذ نقف حيارى عاجزين أمام مئات الجرائم التي ارتكبت في حق رموز الثقافة العراقية التي سجل معظمها ضد مجهول، لا نقف كذلك ونحن نرى أن أجهزة الدولة لا تنأى بنفسها عن الأخذ بممارسات العداء الصريح للثقافة. فقد أقدمت أجهزة تابعة لأمانة بغداد مساء الإثنين المصادف السابع عشر من سبتمبر الجاري، برفقة العسكر المدججين بالسلاح، على تهشيم أكشاك وبسطات عرض الكتب في شارع المتنبي، المعروف بشارع الثقافة في العاصمة العراقية، الذي يمتد تاريخه للعصر العباسي.

وقد حصلت الهجمة دون سابق إنذار، مما سبب أضرارا بليغه لأصحابها، وتدميرا لمعظم الكتب المعروضة، وجرحا عميقا في جسد الثقافة العراقية المضرج بالدماء. وقد استخدمت الجرافات في هذه الغارة، لخلق المزيد من الرعب لدى الباعة والمتسوقين على حد سواء، علما بأن هذا الشارع مخصص للسابلة فقط.

من الصعب تصور أن هذه الحملة تدخل في باب الإجراءات التنظيمية ضد فوضى وعشوائية العرض، وهو ما تحججت به الجهة التي أمرت بتنفيذها. فالعاصمة العراقية، مع شديد الأسف، ليست في أحسن حالاتها نظافة وتنظيما، وإنما هي حملة منظمة ومقصودة، تستهدف القوى الداعية للتمسك بشعار الدولة المدنية كخيار حضاري لا بديل له، لبناء عراق عصري يستوعب كل أبنائه. فهذه الحملة حلقة في سلسلة إجراءات قامت بها الجهات الرسمية في الآونة الأخيرة، شملت مداهمة وإغلاق نوادٍ أدبية وثقافية واجتماعية، وإجراء تغييرات جوهرية تطمس من معالم شارع أبو نؤاس أحد المعالم التاريخية للعاصمة، وترك بعض المعالم الثقافية، مثل تمثال الشاعر معروف الرصافي الواقع في إحدى أهم الساحات (ساحة الأمين) المطلة على أحد أهم شوارع بغداد (شارع الرشيد)، ليصبح مكبا للنفايات.

والحقيقة أن قصة الثقافة في مجتمعاتنا لها ميزة خاصة، إذ يعاد إنتاج عملية قتلها بين الحين والحين، وتعاد عملية الضغط على حملتها وابتزازهم، لحملهم على التنكر لقيمها.

قد يكسب البعض في هذه الحملات ويحيد البعض، ولكن لن يتمكنوا من تحييد الثقافة، فهي منحازة للمستقبل وللإنسان، معبرة عن الضمير الجمعي للمجتمع. فالمثقف الحقيقي يرفض النزول من مرتفعاته المعرفية اليانعة، إلى قيعان الوديان المجدبة التي يتسيدها الداعون لنشر الجهل، محترفو الترويج للخرافات والمعتاشون على تكريس الأساطير واجترارها.