طريق الديمقراطية محفوف بالمخاطر

ت + ت - الحجم الطبيعي

كثيراً ما كنت أناقش مثقفي المعارضة العراقية حين ألتقيهم في منافيهم التي شملت شطراً كبيراً من العالم، ومنها الكويت (السبعينات والثمانينات) وأوروبا الشرقية وبريطانيا (لندن تحديداً) والولايات المتحدة الأميركية، وبالذات مدينة ديترويت في مشيغان.

وكثيراً ما أخذني العجب من طرحهم البعيد عن الواقع، بل وربما الساذج. وكنت أعذر الكثيرين منهم، فالبعض من هؤلاء قد خرج من العراق منذ انقلاب عبد السلام عارف في العام 1963، فأضحى العراق كطيف في خياله.

هؤلاء كانوا يختزلون مشكلة العراق في الحكم الاستبدادي وغياب الديمقراطية، التي ما أن تَحِّل حتى تكون علاجاً لكل داء يعانيه العراق. وإن أنت أثَرتَ التركيبة القبلية والطائفية للمجتمع العراقي والقضية الكردية التي هي كالمرض العضال، أتوك بألف حجة أن العراق قد تجاوز مرحلة الولاء للقبيلة والطائفة، ومواطنوه يميلون إلى العلمانية في

حياتهم وفي توجهاتهم السياسية. أما المشكلة الكردية فهي ـ كما كانوا يصفون - من خلق الحكومات المتعاقبة "الشوفينية"، التي سرعان ما تُحل بالتآخي بين أبناء الشعب الواحد تحت نظام فيدرالي!

لكن خبرتي الشخصية منذ الطفولة، حيث كنت أرى العراقيين يعملون في الكويت بمختلف المهن، وينتمون إلى مختلف الطوائف والقبائل والقوميات، كانت تخبرني بشيء آخر. ثم بعد ذلك، تخصصي في علم الاجتماع، وقراءتي لكتب عالم الاجتماع العراقي المميز د. علي الوردي: "شخصية الفرد العراقي" و"طبيعة المجتمع العراقي" وكتابه ذو السبعة مجلدات: "لمحات اجتماعية من تاريخ العراق"، أقول، حينما انكببت على مطالعة تلك الكتب، وأخبرني الرجل بأسلوبه الشيق.

بأنه لا يستقي أخباره وملاحظاته ومادته العلمية من بطون الكتب فقط، بل يذهب ويجلس في المقاهي ليستمع "لأحاديث عامة الناس" التي تعكس بصدق ما يختلج في أدمغتهم من تصوراتهم عن حياتهم اليومية المعاشة، أدركت أنه ينقل الصورة الحقيقية لواقع المجتمع العراقي، وليست تلك الصورة التي "يريده أن يكون عليها"، أو التي تصورها الأحزاب السياسية، التي هي "صورة المرجو والمأمول" وليست "صورة الموجود والمعاش".

وبالطبع، لم يكن المرء في تلك الأيام الكالحة، يريد أن يصدم هؤلاء المناضلين الذين ذاقوا مرارة الغربة والتشرد واللجوء إلى أوطان هي بعيدة عن وطنهم، وبعضهم تجرع عذاب السجون، وفقد رفاقا أعزاء عليه، لم يكن يريد أن يصدمهم ويبين لهم أن مخاض الديمقراطية سيكون عسيراً، وأن الشعوب التي توصلت إلى الفيدرالية عانت الأمرين إلى أن وصلت إلى تلك الصيغة، وأن بعضها فضل خيار الانفصال وفقاً لمبدأ حق تقرير المصير، الذي أصبح كأحد الأفكار المقدسة عند جميع الشعوب.

والحق أنه لا هؤلاء كانوا مستعدين لسماع مثل هذا الحديث ـ وكنت أعذرهم على ذلك - ولا أنا كنت أريد أن أبين لهم الحقيقة، كما كنت أعتقدها وكما توصلت إليها من خلال تخصصي، وكما أدركتها من خلال اطلاعي على رأي علماء أجلاء ومنهم الوردي، لأن ذلك ربما فَتّ في عضدهم، وألقى في نفوسهم اليأس والحبور، أو ربما ـ وهو الأهم - أنهم ظنوا أنني مؤيد للنظام البائد، وأنا أبعد ما أكون عن ذلك، بل من الذين سيكتوون بناره (حينما كنت أناقشهم قبل 1990)، أو من الذين "اكتووا" بناره حينما حللت "ضيفا" في معسكر الأسر في الرمادي بعد ذلك.

وحالي سابقاً كحال جميع علماء العلوم الاجتماعية اليوم، الذين يتخذون من تطورات الربيع العربي موقفاً متحفظاً، ليس لأنهم ضد التغيير، أو لأنهم يرفعون مقولة أن "ليس بالإمكان أحسن مما كان"، بل لقناعتهم بأن القوى التي تقود التغيير، وهي قوى أحزاب الإسلام السياسي، هي في ذاتها لا تؤمن بالديمقراطية وحرية الرأي وتداول السلطة، وأن رفعها لهذه الشعارات ما هو إلا ركوب للتيار. ولعلنا شاهدنا ذلك هذه الأيام، في أحداث بنغازي وفي موقف المتشددين فيها.

نؤكد أخيراً أن لا أحد ضد التغيير، لكن لنفكر في هذا التغيير قبل أن نضع أيدينا في أيدي من نريد أن نبني أوطاننا معهم!

 

Email