وهج مفقود

ت + ت - الحجم الطبيعي

عندما تلقيت دعوة من "جمعية الصداقة العربية الألمانية" لإحياء أمسية شعرية في العاصمة الألمانية "برلين"، لم أتردد في تلبيتها، لما لهذه المؤسسة من حضور قوي وفاعل في المجتمع الألماني.

وأدركت حينها أن الأمر ليس مجرد شعر أقرأه أمام متذوقي الشعر من عرب وألمان وحسب، بل ستكون هناك نقاشات وحوارات حول الثقافة العربية عموماً، والثقافة الإماراتية على وجه الخصوص، لأن الغربيين عموما يعشقون سبر أغوار الثقافات الأخرى، فكيف الحال إذا أتت إليهم في عقر دارهم، وهو الأمر ذاته الذي أطمح إليه كوني صاحب مشروع ثقافي يهدف إلى نشر الثقافة الإماراتية حول العالم.

لقد حفلت الندوة الشعرية بالشعر والموسيقى والترجمة والحوار الأدبي الرفيع، وكانت نقطة تلاق بين الكُتاب والأدباء والمثقفين من مختلف البلدان العربية، إضافة إلى بعض المثقفين الألمان.

بدأت المناقشات قوية تدخل في عمق التاريخ الأدبي الشعري للعرب خصوصا والشرق عموماً، مما حدا بالبروفيسور ديترش فيلدونغ نائب رئيس جمعية الصداقة العربية الألمانية، إلى الغوص في أعماق التاريخ الفرعوني لثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، ويستخرج من لآلئ الحقبة الفرعونية نماذج شعرية مبهرة، وهو ما أثار حمية الحضور العربي، بحيث دان بعضهم تخلي المثقفين العرب عن تراثهم وتاريخهم الغنيين، ليُودعوه في أيدي الأجانب للاشتغال عليه وتحقيق الفائدة الحضارية منه.

ثم عرّجوا على ضعف لغة الخطاب الثقافي العربي، والأزمات الثقافية العربية المتتالية التي أضرت بالثقافة العربية بشكل عام.

 وقد جاءت مداخلات بعض مثقفي الألمان مفاجئة، من حيث اطلاعهم الواسع على ثقافتنا وأدبنا العربي القديم والحديث، بل أكاد أجزم بأن لديهم معلومات عن الأدب العربي ربما الكثير من العرب لا يعلم عنها شيئاً، ومحرجة في الوقت ذاته من حيث قلة معرفتنا نحن العرب بنتاجات الأدب الألماني.

بدأتُ حديثي عن الثقافة العربية وقضاياها المتشعبة والمتأزمة، التي ما إن انتهينا من الهروب من أزمة ـ وليس حلّها كما هو المفترض ـ إلا ودخلنا في أخرى، وهكذا دواليك. ثم عرّجت على الثقافة الإماراتية والازدهار الكبير الذي تعيشه مختلف إمارات الدولة حضاريا وثقافيا، والذي جعل من دولة الإمارات وجهة ثقافية للمثقفين العرب والأجانب يفدون إليها من كل حدبٍ وصوب، وهو الأمر الذي يفرض علينا كمثقفين إماراتيين أن نعمل على تصدير ثقافتنا الإماراتية إلى الخارج.

كما تطرقت إلى أهمية التواصل العربي العربي والعربي الألماني أو الغربي عموما، والذي يشكل بدوره دعما لحوار الشرق والغرب، ناهيك عن أهميته في إثراء الثقافة العربية عموماً والأدب العربي على وجه الخصوص. ولم يسعفني الوقت المخصص للندوة في الحديث كثيرا، وإلا ما بقيت شاردة ولا واردة إلا وتحدثت عنها، من جراء الاستفسارات الغزيرة التي تنهال عليّ من جانب المثقفين الألمان.

لقد شاهدت في ألمانيا مدى الاهتمام الكبير بالثقافة والأدب، فضلا عن التقدير الجم للمثقف، من خلال ما يحظى به من احتفاء وتكريم وحضور بهي في مختلف المحافل الرسمية والشعبية..

وحتى على مستوى المكان الذي يوارى فيه جثمان هذا المثقف أو ذاك الأديب العظيم، إذ خصصوا في إحدى ضواحي برلين مقبرة للمشاهير فقط، من ملوك ورجال أعمال وفنانين وأدباء وشعراء، جعلوها أشبه بحديقة غنّاء يقصدها الناس من كل أنحاء العالم ليزوروا هذا الفنان أو ذاك الشاعر، فقط للدلالة على عظم الدولة الألمانية والإنسان الألماني على حد سواء، فهم يعلمون جيدا أن الشعوب تحيا بالثقافة وتموت أيضا من خلال الثقافة إذا ما اعتلّت هذه الأخيرة ومرضت.

من جهة أخرى، وفي ذات الرحلة الأوروبية، اتجهت إلى مدينة براغ عاصمة التشيك لإحياء أمسية شعرية أيضاً، بدعوة من "غرفة التجارة التشيكية العربية"، وأثناء تجوالي في الشارع الرئيسي للمدينة، شاهدت طابوراً بشريا طويلاً يصل امتداده إلى حوالي كيلومتر مربع أو أكثر، فأدهشني هذا الموقف فقلت لصديقي: علام يصطف هؤلاء البشر على طول هذه المسافة؟

فقال: ربما لدخول السينما، وبدأت التخمينات تعمل لدينا إلى أن وصلنا إلى أول الطابور، فوجدنا أن كل هؤلاء الأشخاص وأكثرهم من الشباب، ينتظرون دخول المكتبة، فقلت لصديقي مع شيء من الغبطة: ربما هناك كتاب جديد لكاتب مشهور جداً، فأخذني الفضول إلى رجل الأمن المتمترس بجانب المدخل الرئيسي للمكتبة، وسألته عن سبب هذا الزخم الكبير؟ فقال: في الداخل حفل توقيع كتاب لكاتب أمريكي، ولم استطع أن التقط اسم الكاتب من شدة ضوضاء الشارع والناس معا، لكني بالتأكيد لم اسمع باسمه من قبل، فهو ليس من مشاهير الكُتاب الأمريكيين الذين أعرفهم، فقلت في نفسي: كل هؤلاء الناس هم واقفون من أجل شراء نسخهم ممهورة بتوقيع المؤلف، إنه لأمر مدهش!

وحلّق تفكيري في حفلات التوقيع التي تنظم عندنا في المنطقة العربية، والتي لا يحضرها سوى أشخاص معدودين، وأغلبهم من أقارب أو أصدقاء الكاتب نفسه.

وفي الوقت ذاته تذكرت التقرير الرابع للتنمية الثقافية، الذي أصدرته "مؤسسة الفكر العربي" في الدورة العاشرة لـ"مؤتمر فكر" التي انعقدت في دبي العام الماضي، حيث كشف عن تدهور نسبة القراءة بين العرب مقارنة بالغربيين، إذ يشكل متوسط قراءة الفرد الأوربي نحو 200 ساعة سنويا، بينما يصل متوسط القراءة لدى الفرد العربي إلى 6 دقائق سنويا.

وهو الأمر الذي ينبئ بحجم التراجع المعرفي العربي، والذي صنع تخلفنا عن ركب الحضارة وعن مواكبة التقدم المعرفي والتكنولوجي، وهو ما عبر عنه أحد المؤرخين الفرنسيين حينما قال "في القرن الثالث عشر فقد العرب المبادرة التاريخية"، ويقصد بالمبادرة التاريخية أن العرب كانوا في السابق يصنعون التاريخ، وبعد القرن الحادي عشر أصبحوا جزءاً من التاريخ.

وعلى ضوء ما تقدم، فإننا نؤكد أن الحاجة أصبحت ماسة للمطالبة بانعقاد قمة عربية ثقافية تناقش قضايانا الثقافية بجدية، ثم تستصدر قرارات نافذة وفاعلة، تنهض بثقافتنا العريقة وتعيد لها وهجها المفقود.

 

Email