لزمان طويل، روجت الآلة الإعلامية الإسرائيلية مفهوماً مفاده أن العلاقة بين واشنطن وتل أبيب، هي زواج كاثوليكي لا يقبل الانفصال إلا بالموت.. غير أن تصريحات واستطلاعات رأي جديدة تطفو على السطح في الأعوام الأخيرة، تؤكد عكس ذلك.
منذ بضعة أعوام خرج علينا البروفيسوران ستيفن والت وجون ميرشايمرز من جامعة هارفارد، بدراسة قلبت الأوضاع وغيرت الطباع عن شكل تلك العلاقة، لا سيما وأنها أظهرت الآثار الوخيمة التي تنسحب على واشنطن، من جراء دعمها لتل أبيب ظالمة دوماً غير مظلومة أبداً..
أين الجديد إذن؟ لعل أحدث الأوراق التي تعطي الناظر مؤشراً على شكل تلك العلاقة المتغيرة سلباً، تلك التي قام بها أخيراً مجمع الاستخبارات الأميركي وصدرت تحت عنوان "الاستعداد لشرق أوسط ما بعد إسرائيل". والتقرير يقع في نحو 82 صفحة يضيق المسطح المتاح للمقال عن تحليلها وتفكيكها، غير أنه في اختصار غير مخل، يخلص التقرير إلى أن المصالح القومية الأميركية باتت في حقيقتها تتعارض في الأساس مع فكرة وجود إسرائيل الصهيونية.
لماذا؟ ببساطة، لأنه لم يعد من الممكن إنقاذ إسرائيل بسبب احتلالها الغاشم وتصرفاتها العدوانية، التي يصفها التقرير بأنها أكثر عدوانية من نظام جنوب إفريقيا العنصري، إضافة لوقوع حكومات إسرائيل المتعاقبة تحت عبودية القوة المالية والسياسية للمستوطنين.
هناك عامل آخر بدأ الأميركيون يتنبهون له، حكومة وشعباً، وهو أن إسرائيل وإن كانت دولة حليفة بنوع خاص، عقائدياً وإيديولوجياً، إلا أنها ربما تأتي بعد الصين في الدول التي تتجسس على واشنطن، وتقوم بسرقة أحدث مشروعاتها العسكرية، وربما تقايض عليها كما فعلت مع مشروع "برومثيوس" الذي باعته للاتحاد السوفييتي السابق، في مقابل السماح بتهجير اليهود الروس لإسرائيل في ثمانيات القرن الماضي.
وبجانب هذا العامل، هناك كذلك الضائقة المالية لدى واشنطن، إذ لم يعد لديها من الموارد ما يمكنها من تقديم مليارات الدولارات سنوياً علناً وسراً، إضافة إلى إدراك أميركي شعبوي جديد، بأنه من غير الجيد تمويل نظام عنصري.
هل هذه الورقة فريدة من نوعها أم سبقتها قراءات أخرى تصب في الاتجاه ذاته؟ في منتصف يناير الماضي، أظهر استطلاع للرأي جرى في أوساط الجامعات الأميركية، أن ثلث الطلاب في تلك الجامعات يعتقدون أن إسرائيل تشكل عبئاً على الولايات المتحدة.
هذه النتيجة الخطيرة أشارت إليها كذلك صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، والتي أكدت كذلك أن ربع الطلاب الأميركيين يرون في إسرائيل دولة "أبارتايد". الاستطلاع ذاته يصف إسرائيل بأنها دولة ليست على استعداد لحلول وسط من أجل تحقيق السلام..
هل باتت إسرائيل بالفعل خطراً على أميركا؟ تقرير مجمع الاستخبارات المشار إليه، تدعمه أرقام كارثية تكاد تحل بإسرائيل، ومنها أن 50٪ من طلاب الجامعات الأميركية المتميزة اليوم، والذين سيضحون ولا شك خلال عقد أو عقدين من الزمان المسؤولين الرئيسيين التنفيذيين في ذلك البلد الإمبراطوري، يرون أن من حق اللاجئين الفلسطينيين اختيار مكان عودتهم حتى لو كان فلسطين.
يلفت التقرير أيضاً إلى عامل خارجي يمثل ظاهرة لا بد لواشنطن من أن تأخذها بعين الاعتبار عند رسمها للخطوط العريضة الجديدة لعلاقتها مع تل أبيب، ونقصد بها حالة الربيع العربي، واستعادة الشعوب العربية للوعي المفقود.
هذا الربيع بمسحته الإسلامية، يبعث بلا أدنى شك لواشنطن رسالة مفادها أن ملياراً ونصف المليار مسلم حول العالم، يؤمنون بأن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، المدعوم أميركياً، غير شرعي وغير أخلاقي ولا يمكن له أن يدوم، وعليه فإن التزام واشنطن بحماية ودعم إسرائيل العدوانية والقمعية، يستحيل الدفاع عنه أو تبريره من ناحية المصالح القومية العليا، التي تتطلب تطبيع العلاقات مع 57 دولة إسلامية.
هل باتت إسرائيل بدورها تدرك ما يدور في عقول الأميركيين، لا سيما بين رجالات الأنتلجنسيا؟
حتماً انها تدرك ذلك، ولهذا فهي تعتمد على رجالاتها في واشنطن، سواء الرسميين منهم أو المتعاطفين معها عقائدياً من تيارات اليمين المسيحي الأصولي. وفي هذا السياق كانت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية في عددها مايو - يونيو، تفرد دراسة مطولة للسفير الإسرائيلي في واشنطن "مايكل أورين"، عنوانها "الحليف المطلق..
الواقعيون مخطئون.. أميركا بحاجة إلى إسرائيل اليوم أكثر من أي وقت مضى". وقد حاول فيه أن يروج لفكرة أن الفوائد المترتبة على العلاقات الأميركية الإسرائيلية لا تقدر بثمن بالنسبة للولايات المتحدة، وخاصة بسبب تطابق الروح والقيم الديمقراطية في البلدين.
غير أن البروفيسور ستيفن والت، كان في العدد التالي يقرعه بالقول "إن هناك فروقاً جوهرية بين نظامي الحكم في هذين البلدين، فالولايات المتحدة قائمة على نظام ديمقراطي ليبرالي، حيث من المفترض أن يتمتع الناس بالحقوق نفسها، مهما كان عرقهم أو دينهم أو إثنيتهم، أما إسرائيل ففي المقابل تأسست لتكون دولة يهودية، وسكان إسرائيل غير اليهود يعتبرون مواطنين من الدرجة الثانية".
هل يمكن لإسرائيل إن تعي الرسائل الاستخبارية الأميركية الأخيرة؟ أم أنهم كما قال أنبياؤهم من قبل "لهم آذان ولا يسمعون بها وعيون ولا يبصرون بها"؟