هل هناك من يعمل بكل جد واجتهاد لتحقيق تنبؤات هانتغتون وإن كانت منحولة، وفي مقدمتها القول بتقسيم العالم دينياً وثقافوياً ومن ثم إشعال النيران من حول الجميع؟
يبدو أن ذلك كذلك، وما حديث الفيلم الأميركي سيئ الذكر إلا تأكيد ومصداق لذلك، ما يجعلنا نتساءل؛ هل ما جرى من إلحاق الإهانة بالإسلام والمسلمين هو مجرد فتنة دينية أم يتسع الأمر لكونه مؤامرة سياسية؟
الثابت أن سيناريو الأحداث وضبابية المشهد، يفتحان أبواباً واسعة للعديد من السيناريوهات، والمثير أنها جميعاً تصب في معين واحد، يذكي نيران الكراهية، وينفخ النيران في مشاعر العنصرية حول العالم.
لماذا يخرج علينا في الحادي عشر من سبتمبر تحديداً، عمل مسخ بدعوى أنه فيلم يعبر عن حرية رأي؟ ولماذا يهدف أيضاً للإساءة بشكل خاص لنبي الإسلام الكريم؟ وهل المقصود بالفعل هو إثارة مشاعر المسلمين حول الأرض ونصب كمين لهم؟
يمكن القول أول الأمر أن ما جرى الإعلان عنه على صفحات الانترنت، ليس فيلماً درامياً أو وثائقياً تاريخياً على درجة من الحرفية والذكاء والإبداع الفني، لكنه وبحق عمل رخيص، لا يتجاوز الدقائق المعدودات، ولم يعرض كفيلم حتى الساعة في أي دور عرض سينمائي في أميركا، ويؤكد البعض أن الأمر يتوقف عند هذا "التريلر" بلغة هوليوود.
الأسئلة عادة أهم من الإجابات، لأنها تفتح آفاقاً رحبة للتفكير في ما وراء الأكمة، ومن بينها؛ هل كان المقصود إثارة مشاعر مسلمي العالم لا سيما في الشرق الأوسط، وإحداث ردة فعل عنيفة تجاه الحضور الأميركي في المنطقة؟
قد يكون هذا بالفعل مقصوداً، ومن يتابع الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية، يدرك كيف أن الجمهوريين اليوم في تحالفاتهم الجديدة مع مجموعات يهودية ومسيحية صهيونية مخترقة مثل السوبر باك، وبالتضامن مع مليارديرات يهود من عينة "شيلدون اديلسون"، و"ميل سيمبلر"، باتوا يرصدون مئات ملايين الدولارات لحرمان أوباما من فرصة رئاسية جديدة.
لماذا؟ ربما لسببين:
الأول؛ لأنه الرجل الذي ساعدت إدارته الثورات العربية التي أتت بالإسلاميين إلى الحكم وأقصت أصدقاء إسرائيل في المنطقة.
والثاني؛ لأنه الرئيس الأميركي الذي يقف عقبة في وجه مخططات رئيس وزراء إسرائيل الحالي بنيامين نتانياهو، الخاصة بتوجيه ضربة عسكرية للبرنامج النووي الإيراني.
هل نجح نتانياهو في إشعال واشنطن مرة ثانية؟
تقول صحيفة وول ستريت جورنال، إن منتج الفيلم "سام باسيل" أميركي إسرائيلي، وإن فيلمه بحسب تصريحه هو "جهد سياسي يهدف إلى لفت الانتباه إلى النفاق الإسلامي، وأن الإسلام كالسرطان"، وتشير الصحيفة الأميركية إلى أن نحو مائة من كبار الممولين اليهود الأميركيين شاركوا في تحمل تكلفة الفيلم، والتي تبلغ خمسة ملايين دولار، والرقم عينه كاف ليكشف أنه ما من فيلم في حقيقة الحال، لأن تكلفة إنتاج أي عمل حقيقي في هوليوود تتجاوز مئات الملايين من الدولارات.
يرفض باراك أوباما مقابلة بنيامين نتانياهو في نيويورك أو واشنطن على هامش أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة في دورتها الحالية، فيرد نتانياهو عبر الأذرع المالية والإعلامية والسياسية الأميركية في الداخل، أما في الخارج فالفتنة من نوع آخر، نوع أشد فتكاً وتمزيقاً للنسيج الاجتماعي العربي.
كيف ذلك؟ عبر اللعب على وتيرة الطائفية، وتحديداً عبر استخدام بضعة أفراد لا يتجاوزون عدد أصابع اليدين، من أقباط مصر في أميركا الذين ملأت قلوبهم العداوات والأحقاد تجاه الوطن الأم، وتجاه شعوب المنطقة الإسلامية برمتها، ولم يكن لأحدهم دور يتجاوز الترويج للفيلم.
يلفت النظر أيضاً في وجود مؤامرة ما خلف هذا العمل، تضارب الروايات حول من قام به، وهل هم شخوص حقيقية أم أسماء مستعارة! ناهيك عن تضارب روايات الإعلام الأميركي نفسه، ما يجعل الظنون تتراكم حول كونه صراعاً أميركياً داخلياً بأدوات خارجية، ولتحقيق أهداف بعيدة.
ماذا عن تلك الأهداف؟
حتماً إن القائمين على هذا المسخ الفني، كانوا يدركون كيف أنه، ومن أسف، سوف يعمق الشرخ الطائفي في مصر وبقية العالم العربي، ويعزز من نشوء جبهات دينية متناحرة.
هل في هذا مصلحة لإسرائيل بداية وإفشال لأوباما ثانية؟
هو كذلك بالفعل، وعلى القارئ العودة إلى مذكرات موشي شاريت أول وزير خارجية لإسرائيل، وثاني رئيس وزراء لها، حيث يتحدث عن تقسيم مصر طائفياً وجغرافياً وتخصيص دولة للأقباط، وهو الحديث عينه الذي أكدته الدراسة المنشورة في مجلة كيفونيم العام 1982؟
أما أوباما فكان لا بد من إظهار فشل دعمه للأنظمة العربية الإسلامية الجديدة، التي ساعدتها واشنطن في ثوراتها ورأت إعطاء فرصة للإسلام السياسي ليخوض تجربته، ودق إسفين بين الشعوب العربية وأوباما..
ألم يقل الرجل إن مصر ليست دولة حليفة؟
فتنة دينية أم مؤامرة سياسية؟
لا يهم الجواب فقد "وقعنا في الفخ"، كما يؤكد ذلك الدكتور نهاد عوض رئيس مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية في واشنطن "كير"، وجاءت ردود الأفعال العنيفة لتسقط من أيادينا حقوق أدبية وأخلاقية تمثل قضية عادلة، بل أعدل قضية، تولاها من أسف أسوأ محامين عرب ومسلمين..
هل هذه بداية الأوجاع وأول المخاض؟
ربما الأسوأ لم يأت بعد، لكن من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص.