لم يبقَ للذين خبروا الصورة التركية بهندستها السوسيو- ثقافية الحديثة، سوى الخلوص إلى النتيجة المنطقية التالية: لقد أدت القطيعة الحادة بين تركيا الحديثة ووالدتها الشرعية الإمبراطورية العثمانية، إلى صدع هائل في الصورة أفقدها سماتها وبدّد هويتها.
حتى أنّ من علماء الجيو-ستراتيجيا من رأى أن تركيا كدولة، ظهرت في المكان الذي خلا بعد الإمبراطورية العثمانية، ولكنها لم تكن امتداداً له. ذلك يعني منطقياً أن قطيعة حادة حصلت بين السلطنة والدولة الجديدة، من أبرز سماتها: إقصاء الإسلام السياسي كأطروحة للحكم، وحلول سلطة سياسية ذات ثقافة برانية، راحت تتدفّق على بلاد الأناضول بفعل الصعود المدوّي لإمبرياليات الحداثة الغربية.
وهكذا جرت التحولات على نحو تناقضي انتباذي، بين الإسلامية العثمانية والعلمانية الأتاتوركية، إذ بدلاً من البنية الإسلامية الإمبراطورية المتعددة المراكز والكثيرة القوميات، أقام مصطفى كمال أتاتورك الصيغة الشرقية لمقولة الدولة/ الأمة (Etat-Nation)، ذات البناء العلماني ـ الإلحادي الفج والقومي الضيق.
لقد تحولت تركيا بسبب من هذا الإجراء التاريخي، إلى كونها الدولة الأولى في الشرق التي تقطع الصّلات مع تقاليدها الروحية والدينية والجيوسياسية.
أما من الناحية الواقعية، فتمثل تركيا كعضو في الناتو "المخفر الأمامي للأطلسية والعولمة"، وهو ما يسميه عالم الجيوبوليتيكا الروسي الكسندر دوغين بـ"النطاق الصحي" بين الشرق الآسيوي والعالم العربي. والأنموذج الجيوبوليتيكي الذي تقدمه تركيا، هو التكامل مع الغرب والحضارة العولمية الإلحادية.
ولكن بما أن تركيا نفسها ـ الطامحة إلى الدخول في أوروبا ـ لا تزال تشكل "مستعمرة سياسية إيديولوجية" للولايات المتحدة، فإن معرفة موقعيتها يعني بالنسبة لبلدان الجوار تكاملاً مع المشروع العولمي، وتشكيل "العزقة الاستعمارية" بين كتلة أوراسيا (إيران والصين والهند)، وبين العالم العربي الذي يهدد بالانفجار ويتطلع دوماً إلى التخلص من القيادة العولمية.
ومن مفارقات "الدين السياسي التركي"، أن الأتراك العثمانيين أنفسهم أُخذوا منذ البداية بدهشة العلمنة. ربما يعود ذلك إلى احتكاكهم بتحولات الحداثة الأوروبية، وكذلك بفعل جدليات الاحتدام والتواصل مع تلك التحولات. وقد أظهر العثمانيون في عهد السلطانين محمد الفاتح وسليمان القانوني، ميلاً للابتعاد عن حكم الشريعة الإسلامية.
و لمّا أقام الأتراك جمهوريتهم عام 1923، اتّخذوا خطوة كبيرة في هذا الاتجاه، حيث اختاروا لها نظاماً علمانياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وقرروا استبدال النظام العثماني الإسلامي بالنظام الجمهوري العلماني.
وبحسب مؤسسي الجمهورية التركية، فإن الإسلام بالنسبة إليهم يجب أن يشكل منظومة عقائدية وقومية على المستوى الفردي فقط، ولا يجب أن يصبح مرجعية لرؤية أو مبادئ أو مجموعة مفاهيم متجلية على المستوى السياسي.
ورغم جاذبية الخطاب الديني وقوّته بين الأحزاب الحديثة ذات الأيديولوجية الإسلامية (حزب النظام القومي وحزب الفضيلة وحزب الرفاه وأخيراً حزب العدالة والتنمية)، إلا أنها رسمت لنفسها خطاً أحمر لجهة عدم تجاوز "قدسية" النظام الجمهوري ودستور 1923.
لقد استمرت تركيا الجمهورية في تنفيذ مشروعها العلماني، من قبل أن تسمح للإسلام بأن يؤدي دوراً مؤثراً في سياساتها، وأصبح من الصعب ـ في ضوء ذلك ـ على الأحزاب الإسلامية أن تستعيد لنفسها استراتيجية "الرجل الواحد" خلال الانتخابات لتسلّم السلطة، ومحاولة إقامة دولة على خلفية إسلامية.
فالمقترعون الأتراك لم يصوتوا ـ لا في الماضي ولا في الحاضر ـ لأي حزب ولم ينتخبوه لكونه حزباً دينياً إسلامياً. ولا بد من الإشارة إلى أن تركيا سمحت للإسلام بأداء دور في الحياة السياسية فيها، من أجل أن يحقق المصالحة مع الديمقراطية.
واللافت أنه رغم الصعود البيّن للحركة الإسلامية التركية، فقد ظلت فكرة إقامة الدولة على أسس إسلامية، فكرة "معزولة" عن بنية الخطاب السياسي، الذي لم يجد له ترجمة عملية في الواقع. حتى أردوغان نفسه، بقي على حذره حيال المسّ بالنظام العلماني، بل وتعامل معه كــ"لاهوت سياسي" لا ينبغي إلحاق الأذى بقدسيته. وبهذا المعنى فقد استعاض حزب العدالة والتنمية، عن الإسلام السياسي، بتصعيد النزعة القومية التركية.
ولعلّ إحدى النقاط التي توقّف عندها أردوغان وتعكس طبيعة تفكيره، هي أنّ "المؤمن الحقيقي ـ كما يقول- لا يجوز له أن يلحق الأذى بالآخرين مهما كان اعتقادهم أو دينهم"، فقد قال مرة: "إيماني بالإسلام كعقيدة هو إيمان على الصعيد الفردي، أما اهتمامي على الصعيد السياسي فهو تكريس الدستور والمبادئ والديمقراطية".
وفي التحليل النهائي، فإن أردوغان يتخذ من الإسلام ومن الديمقراطية وسائل أو أدوات لتأكيد السعادة والرفاه لشعبه، ولذلك راح يحتفظ بمسافة بيّنة تنأى به عن تهمة الإسلام السياسي.
وعلى أي حال، فإن الفجوة مع العلمانيين لا تعني أردوغان على الإطلاق، فقد اتّهموه دائماً، بأنه يسعى إلى تقوية الإسلام السياسي، وأنه يختبئ خلف نواياه الحقيقية، وينتظر الظروف الملائمة للانقضاض عليهم، ومن أجل إقناع العلمانيين بأنه لا يطمح إلى دولة إسلامية، لم يكتف أردوغان بالابتعاد عن القاموس اللفظي في الخطاب الإسلامي، وإنما مضى إلى عدم استخدام التقويم الهجري الإسلامي.
من النخب التركية التي اختبرت رحلة "الأسلمة المستحدثة"، من ينبري إلى إجراء محاكمة نقدية لتجربة الإسلام السياسي، من خلال النموذج الذي يقدّمه حزب العدالة والتنمية. وهذا النموذج ـ حسب تصور هؤلاء- ينطوي على اضطراب، حين يريد صانعوه أن يوائموا بين اعتقادهم الفردي وهم في موقع القرار، وبين شروط قيادة الدولة وإدارة مؤسساتها.
في المقدّمات التي يلاحظها نقّاد الإسلام السياسي المستحدث، أنّ الإسلاميين الأتراك الذين نظموا أنفسهم سياسياً منذ أواخر الستينات، راحوا يتخلّون عن نموذجهم الإسلامي الخاص، لصالح النموذج الديمقراطي الغربي.
ولم يفعلوا ذلك لأنهم تخلّوا عن معتقدهم، ولا لأنهم لم يعودوا يطمحون لمجتمع إسلامي. لقد فعلوا ذلك لأنهم مرّوا بعملية دراسة للأفكار والخبرات، اتضح خلالها أنه من دون الأساس المدني، أي الفصل بين شؤون العقيدة وشؤون السياسة والحياة العامة، لا يمكن تأسيس مجتمع ديمقراطي.