أخلاق المصريين وسجاياهم

ت + ت - الحجم الطبيعي

من الجواهر التي نشرها المجمع الثقافي في أبوظبي ـ أدام الله خيره على الثقافة العربية ـ كتاب "تاريخ هيرودوت"، وهو إغريقي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، ويلقب بأبي المؤرخين، لما احتواه مُؤَلّفه المذكور من طريقة فذة في التأريخ، قائمة على نبذ الروايات التي تدخل في قائمة الأساطير والخرافات، واستخدام المعاينة ومعرفة الأماكن والبقاع، فضلاً عن عدم الاقتصار في عمله على تسجيل ما قام به القادة والعظماء وعلية القوم، بل وأيضاً سرد أحوال الناس في حياتهم العادية.

وقد كانت أخلاق المصريين وسجاياهم جزءاً مما سجله هذا المؤرخ الفذ، إلى جانب تاريخ "الفراعنة"، وحروب الفرس واليونان، القوتين العظميين في أيامه، التي أطنب في توثيقها وتدوينها. وسنرى أن بعض هذه السجايا والأخلاق ظلت كما هي عبر القرون، لأصالة الشعب المصري، وبعضها مسته أيدي الزمن بالتغيير أو التحوير، وذلك بسبب تبدل المعتقدات الدينية وغيرها.

"المصريون متدينون حد الإفراط، دونهم كل شعب آخر" ـ هكذا يكتب هيرودوت ـ وهم "قوم حريصون أشد الحرص على التمسك بتقاليدهم، ولا يأخذون بالأساليب الأجنبية"، ولذلك فهم "ينأون بأنفسهم عن الأخذ بعادات الإغريق، بل قل أي أمة أخرى من أمم الأرض. وهذا نزوع شائع بينهم ومسلّم به".

ويرى هيرودوت أن المصريين "أسلم الناس صحة"، لأن "بلادهم لا تتعرض لتقلبات الطقس المفاجئة". وربما أيضاً ـ ويذكره في موضع آخر ـ لاهتمامهم الزائد بالنظافة، "فهم يشربون من كؤوس من النحاس يدأبون على تنظيفها كل يوم، ثم إنهم يرتدون الملابس المنسوجة من الكتان التي يحرصون على أن تكون أبداً نظيفة.

ومن عاداتهم الختان حرصاً على النظافة"، ويقول إن الأمم المتحضرة آنئذ قد أخذت عادة الختان تلك من المصريين.

ولم يربط هيرودوت صحة المصريين بتقدم الطب عندهم، رغم أنه ذكر ذلك بإعجاب. فهو يكتب: "والمصريون أكثر شعوب العالم إسهاماً في تشخيص الأمراض، ومن شأنهم أنهم كلما لاحت لهم ظاهرة شرعوا في ملاحظتها ومتابعة نتائجها وتدوينها، فإذا تكررت الظاهرة أدركوا ما ستكون عليه عاقبتها".

ثم يبرز وجهاً من أوجه التقدم في مصر في تلك الحقبة السحيقة فيضيف: "والطب اختصاصات منفصلة غير متصلة، فلكل طبيب مرض يختص به دون سواه، ولذلك يحفل البلد بالأطباء، وكل يعنى بعلاج عضو من الأعضاء ولا يتجاوزه إلى اختصاص آخر، فهذا يعالج العين، وذاك الرأس، وسواهما الأسنان، وغيره الأمعاء، كما أن منهم من يعنى بأمراض غير محددة".

وحديثه عن البقول (وعلى رأسها الفول بالطبع) حديث عجيب، إذ يلاحظ أنها "ممقوتة عند المصريين فلا يزرعونها أو يأكلونها، نيئة أو مطهية، حتى أن الكهنة لا يطيقون أن يقع نظرهم عليها"! ووجد هيرودوت أن المصريين يعتبرون "الخنزير حيواناً نجساً، حتى إن المرء إذا مسه هذا الحيوان، ولو مساً خفيفاً، أو عرضاً، هرع إلى النهر ليغطس فيه بكل ما يرتدي من اللباس.

ولذلك ـ يضيف ـ وجدنا المصريين يحرمون دخول صاحب الخنازير معابدهم، كذلك لا ترضى أسرة بمصاهرته، فلا يزوجونه من بناتهم، ولا يتزوجون من بناته".

أما طعام المصريين فهو أساساً من "خبز الحنطة"، وهم يعيبون على الأقوام الأخرى التي تخلط القمح بالشعير. "ومن طعامهم السمك، وهو على أنواع، وبعضه مملح ومنه ما ليس بمالح، ويتناولونه نيئاً، شأنه شأن طائر الفري والبط والطيور الصغيرة التي يتناولون لحمها نيئاً، ولا يضيفون إليها سوى الملح. أما الطيور الأخرى والأسماك غير المقدسة منها، فيتناولونها مشوية أو مسلوقة".

ويكتب هيرودوت مادحاً تحضر المصريين وتمدنهم، لأنهم "أول من حرم مضاجعة النساء في المعابد، أو إدخالهن العتبات المقدسة دون اغتسال. والحق ـ كما يؤكد مفتخراً ـ أنه ما من شعب سوى المصريين والإغريق يأخذ بهذا النهج، فكل الأمم تعتبر البشر والحيوان في هذه الأمور سواء بسواء".

هذا غيض من فيض طرائف هذا الكتاب التحفة، نترك الباقي ليتذوقه القارئ الكريم، مع تقديرنا الذي لا حدود له لنشاط المجمع الثقافي في أبوظبي.

Email