في مقدمة التساؤلات المثيرة للقلق الحقيقي حول العالم، ذاك المرتبط بعام 2013 وأوضاعه الاقتصادية المتردية المحتملة، وهل سيضحي هو العام الذي ستصاب فيه البشرية بانتكاسة اقتصادية تتجاوز في واقعها الأليم زمن الكساد العظيم في القرن الماضي؟ وهل ستكون أوروبا هذه المرة هي السبب في غرق الولايات المتحدة، ومن خلفها بقية قارات العالم؟

في أوائل أغسطس المنصرم كتب «جدعون راشمان» عبر الفايننشال تايمز، وتحت عنوان «الولايات المتحدة وأوروبا تغرقان معاً»، يقول: «على طرفي الأطلسي يتضح الآن أن معظم النمو الاقتصادي الذي تحقق في السنوات التي سبقت الأزمة، نجم عن ازدهار مؤقت وخطير في قطاع الائتمان»..

والشاهد أن أزمة الولايات المتحدة المالية كان وراءها أفراد، هم مالكو المنازل محور الأزمة، أما المشكلة الحقيقية في أوروبا فتتعلق بدول كاملة، مثل اليونان وإيطاليا.. هل لهذا يقال إن أزمة قلبية تضرب عمق أوروبا؟

تتحتم الإشارة إلى أن الجدل القائم بشأن «الدين»، كما يذهب «راشمان»، يتخذ طابعاً داخلياً ومتوتراً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لدرجة أن قلة من الأشخاص تلاحظ تشابه الوضع القائم في المنطقتين، إلى حد أن جوهر المشكلة يبقى واحداً. فأوروبا والولايات المتحدة في مجابهة مع الأموال العامة التي خرجت عن السيطرة، والأنظمة السياسية التي تعتبر ضبابية أكثر من اللزوم، ما يصعب عملية إصلاح المشكلة. وعليه، يبدو أن الولايات المتحدة وأوروبا تغرقان في المركب نفسه.. هل أوروبا في الحقيقة هي السبب الأول لخرق مركب العالم الاقتصادي؟

الجواب يعود بنا إلى الأزمة القلبية الأوروبية التي كانت اليونان في الحقيقة وراءها ولا تزال، وبدون حل أوروبي جذري، ربما تتفاقم أزمة أوروبا، وتتعاظم خسارتها، وتنتقل من المستوى الاقتصادي إلى التفكك على الصعيد السياسي، وتبخر حلم الوحدة الأوروبية.

والشاهد أن الخسائر من نوبة أوروبا القلبية، وإن بان أثرها بشكل سريع عند الجانب الأميركي، فإنه، وبنفس القدر، سيؤثر في بقية العالم.

عبر مجلة الفورين بوليسي، يشير «محمد العريان» المدير التنفيذي ومساعد رئيس قسم الاستثمار في شركة «بمكو» للاستثمارات العالمية، إلى أن مستقبل اليونان السلبي الظاهر للعيان سيكون بمنزلة حقيقية من شأنها تعويق النمو العالمي، وأنه إذا غادرت اليونان منطقة اليورو المؤلفة من 17 عضواً، فلن يبرز أي طرف يستطيع أخذ المبادرة واحتواء عدوى الاضطرابات في الاقتصاد العالمي.. ما الخطأ الذي ارتكبته أوروبا ليصل بها الحال إلى هذا الدرك الذي يهدد الأميركيين معها والعالم من خلفهما؟

يلخص توماس فريدمان، الكاتب الأميركي وعراب العولمة الأشهر، المشهد بما يسميه «غطرسة أوروبا»، إذ يرى أن الأوروبيين فشلوا في بناء أوروبا، ومع فشل المشروع الجماعي انزلقت أوروبا في دائرة الفردية، وهكذا بات لدى الاتحاد الأوروبي اليوم عدد من المواطنين من دون وجود لدولة جامعة، حيث الكل فيها مستعد للتنازل عن المصلحة الاقتصادية من أجل الصالح العالم.

نصيب العولمة من الأزمة يراه فريدمان متمثلاً في شبكة الاتصالات والتواصل المعلوماتي في دول الاتحاد الأوروبي، فقد جعلت الأمر بالغ الصعوبة. فعندما تصبح دول لديها هذا الحجم من الاختلافات مترابطة إلى هذا الحد، وعندما تكون الفروقات الأخلاقية شاسعة بين هذه الدول، فيما تتشارك في العملة فقط، ينتهي الأمر بأن يتحكم مثلاً المدخرون الألمان في العمال اليونانيين بهذه الطريقة البشعة. هل سيكون الشرق الأوسط بمأمن من الطوفان الاقتصادي الذي يستقرئه كثيرون حول العالم؟

حتماً، إن ذلك ليس كذلك، وقد تنبه للمشهد عدد من المحللين الاقتصاديين في المنطقة، من أمثال «أفيعاد كلاينبرغ» الذي كتب عبر يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، مقالاً مطولاً عنوانه «انهيار أوروبا.. الشتاء الغربي»، يقول في مطلعه: «الشتاء يحل، ليس على الشرق الأوسط، ليس على العالم الثالث، بل على الأول والثاني، على الغرب، وهو يأتي في موعده، ولكننا دوماً تجدنا متفاجئين». وخلاصة الرؤية أن العالم تغير، وأن قوى جديدة صعدت فيه، واحتياجات جديدة ولدت.

أما أميركا فقد أضاعت مقدراتها الهائلة، في سلسلة من المغامرات الاقتصادية والعسكرية، ولم يعد في وسعها أن تنقذ نفسها، فضلاً عن أوروبا.

أما أوروبا، فتقترب بسرعة من أزمة اقتصادية عميقة، ستكون بالضرورة أيضاً أزمة سياسية وأخلاقية، أزمة ليست مستعدة لها عقلياً وسياسياً، وستجبرها، كالمعتاد، على أن تخترع بسرعة ودون تفكر، مذهباً فكرياً بديلاً.

لا جدال في أن أميركا وأوروبا مرتبطتان بحبل سري، وفي المرة الأخيرة التي علقت فيها أميركا في أزمة 1929، اهتز تماماً النظام الأوروبي والعالمي.. الشتاء يقترب... أعدوا المعاطف..

هل من آذان عربية مستعدة للسمع؟ أم يتحتم علينا الانتظار لحين القارعة؟

طرح القضايا يبدأ من الذات، وليس من الآخرين، أيمكن أن تكون الأزمة القادمة مدعاة لصحوة اقتصادية وحدوية عربية؟ الطوفان هو بديل عدم الاستعداد لمواجهة الشتاء القارس، المنتظر حلوله في