يتساءل المرء كثيرا ما هي القوى الخفية الحقيقية التي تقف وراء تمويل الحملات الانتخابية الأميركية، سواء الرئاسية أو الكونغرس وصولاً لحكام الولايات وعمد أصغر المدن الأميركية؟

يمكن القول إن طبقة القيادة في الولايات المتحدة تسيطر عليها اليوم مجموعة محافظة جديدة، تشترك في هدف التأكيد على القوة العسكرية الأميركية في أنحاء العالم، على نحو يتسم بالجرأة. وهناك ما يمكن اعتباره أجندة للهيمنة الكونية، لها خطوطها المتصلة مع إعلام هائل منتشر كالأخطبوط يشكل الرأي العام الأميركي، وهذا يتجلى كثيرا في كبار صانعي الأخبار في الولايات المتحدة، وكيف أصبحوا خاضعين لشركات العلاقات العامة، التي تلفق الأخبار على النحو الذي فيه مصلحتهم.

وفي كل الأحوال، يوثق خيط طويل من البحث السوسيولوجي وجود طبقة حاكمة مهيمنة في الولايات المتحدة، هي التي تضع السياسات وتحدد الأولويات السياسية القومية، وذلك بما تملكه من إسهامات مالية في زمن الانتخابات.

هذه الطبقة تحافظ على نفسها من خلال الأسر المتشابكة ذات المكانة الاجتماعية الرفيعة، التي لها أسلوب حياة متشابه والولاء للشركات الضخمة، وعضوية نوادي النخبة الاجتماعية والمدارس الخاصة، وتؤيد في الغالب نفسها بنفسها، حيث تحافظ على نفوذها من خلال مؤسسات وضع السياسات.

مثل اتحاد الصناعات القومي، والغرف التجارية، ومجلس الأعمال التجارية، ومائدة الأعمال التجارية المستديرة، ومجلس المؤتمر الأميركي، ومجلس العلاقات الخارجية، وغيرها من الجماعات السياسية التي تركز اهتمامها على الأعمال التجارية.

هل يريد القارئ مثالاً حياً على كيفية بيع وشراء الأصوات الانتخابية عبر الديمقراطية الأميركية؟ إليك ما يقوله "غريغ بالاست" الكاتب الأميركي الشهير وأفضل من كتب في هذا الإطار، إذ يعطينا مثالاً بالانتخابات الرئاسية عامي 2000 و2004، التي استطاع فيها جورج بوش الابن تحقيق نصر رئاسي مبين، عبر مليارات الدولارات التي دخلت حملته الانتخابية وحرم منها منافسه آل غور.

هل الأنظمة الديمقراطية سوق مشرعة الأبواب لمن يدفع أكثر؟ وإذا كان ذلك كذلك، فما هو مصير تلك الأنظمة إن لم يكن اليوم فغداً أو بعد غد على أقصى تقدير؟

علامة الاستفهام المتقدمة هذه، توقف معها للجواب عليها البروفيسور في جامعة جورج مايسون ستيفن بيرلستاين، عبر صحيفة واشنطن بوست الأميركية بتاريخ 21/4/2012 تحت عنوان مثير "الاستقطاب الأيديولوجي يشل عجلة النظام السياسي الأميركي"..

ما الذي قاله الرجل؟ يقول باختصار شديد؛ إن الأنظمة الديمقراطية تشبه السوق المشرعة الأبواب، ويفترض أن سعي المشاركين فيها كل لمصلحته يؤدي إلى الخير العام، لكن السوق الديمقراطية تخفق اليوم.. كيف؟

في الماضي كان الناخب الوسطي هو الفيصل في الانتخابات، وفي مثل هذا النظام كان سبيل أي حزب إلى حيازة الغالبية، هو استمالة الناخبين المستقلين أو ناخبي الوسط.. فما الذي جرى الآن؟

بحسب بيرلستاين فإن ثمة ما تغير في السوق السياسية الديمقراطية، فاستراتيجية الفوز لا ترفع لواء التزام الاعتدال أكثر من الخصم، بل تدعو إلى انتهاج التطرف العقائدي الحزبي، ويعود التغير هذا في الحياة السياسية الأميركية، إلى غلبة سلاح التمويل على الحملة الانتخابية.

ما هي الآثار المتضمنة بالنسبة للديمقراطية الأميركية من جراء فكرة السوق مشرعة الأبواب؟ يؤثر الدور الذي يلعبه التمويل الخاص في السياسات الأميركية، على ميزان القوى بين الجماعات الاجتماعية المتنافسة، ويحتاج الساسة إلى مبالغ كبيرة من المال للقيام بحملات انتخابية ناجحة، من أجل شغل المناصب الرئيسية في الدولة، وهذه الحقيقة تربط مصالحهم حتما بمصالح الجماعات والقوى التي يمكن أن توفر ذلك المال.

هل سيترك الأميركيون بلدهم هكذا نهبا للسوق الديمقراطية المفتوحة في عالم الانتخابات والتشريع؟ ومن يضمن استقلالية القرار الأميركي مستقبلًا؟

خلال السنوات الماضية تضمن عدد من التشريعات اقتراحات بقيود على التمويل الخاص للحملات الانتخابية، إلا أن الإصلاح السياسي توقف لأن الحزبين الرئيسين يختلفان على الشكل الذي ينبغي أن يكون عليه ذلك الإصلاح.

ولأجل إصلاح أحوال المساهمات المالية في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأميركية، تقدمت مجموعة مكونة من أربعة عشر من أساتذة العلوم السياسية، بعدد من التوصيات كالتالي:

1- يجب تقديم تمويل عام جزئي إلى المرشحين للكونغرس.

2- يجب زيادة حدود المساهمة بشكل معتدل، مع تعديلها فيما بعد طبقاً لمعدل التضخم.

3- يجب فرض قيود معقولة على مساهمات الأموال.

تلك الأفكار، هل تنقذ الديمقراطية الأميركية من شبح السوق المشرعة على نوافذ جماعات الضغط المالي والأيديولوجي في الحياة الأميركية، حيث كل شيء قابل للبيع والشراء؟