مكاشفة القلوب

ت + ت - الحجم الطبيعي

على بساط من العشب حوّلت لونه الأخضر شمس صيفنا الحارقة فأصبح رماديا، وفي منتصف شهر يوليو، الساعة الثالثة ظهرا، في درجة حرارة تقترب من الخمسين، ونسبة رطوبة بلغت المئة، وفي ظل شجرة، وسط جزيرة بين شارعين، تجري عليهما آلاف السيارات من مختلف الأوزان، بكل ما تحدثه من ضوضاء وجلبة، وما تنفثه عوادمها من حرارة ودخان، كان يغط في نوم عميق، غير آبه بكل ذلك، تخاله يرى أحلاما لا يراها نائم على وسادة من ريش نعام، في سرير مغطى بفرش من حرير، داخل غرفة مكيفة مغلقة الأبواب معزولة عما يجري خارجها!

مشهد يمكنك رؤيته في كثير من شوارعنا، على مدى أيام الصيف الطويلة، ساعة القيلولة وأنت عائد من عملك إلى بيتك، فتعجب كيف يمكن أن ينام إنسان في عز الظهيرة، على بساط من العشب محترق، يتوسد يده أو خرقة إزار بالية، دون أن يشعر بهذا الحر اللافح، ولا العابرين من حوله بسياراتهم، ينهبون الأرض للوصول إلى منازلهم، كي يَأووا إلى سُرُرهم الوثيرة، في غرفهم المكيفة، وقد يعرف النوم طريقه إلى عيونهم أو لا يعرفه!

في كتابه "مكاشفة القلوب المُقرِّب إلى حضرة علام الغيوب"، يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي؛ إن إبراهيم بن أدهم، وكان من أهل النعم في خراسان، فبينما هو يشرف من قصر له ذات يوم، إذ نظر إلى رجل في فناء القصر وفي يده رغيف يأكله، فلما أكل نام، فقال لبعض غلمانه: إذا قام فجئني به.

 فلما قام جاء به إليه، فقال إبراهيم: أيها الرجل، أكلت الرغيف وأنت جائع؟ قال: نعم. قال: فشبعت؟ قال: نعم. قال: ثم نمت طيبا؟ قال: نعم. فقال إبراهيم في نفسه: فما أصنع أنا بالدنيا والنفس تقنع بهذا القدر؟

إنها القناعة إذن، تلك التي يعتبرها البعض بوابة السعادة التي تبدو سرابا يطارده البشر جميعا، منذ بدء الخليقة وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.

كلنا نبحث عن السعادة، ونصارع للوصول إليها، ونختلف حولها؛ منا من يراها في المال، ومنا من يراها في البنين، ومنا من يراها في القناعة والزهد والرضى بما قسمه الله. وخلال رحلة بحثنا هذه، ننسى أشياء كثيرة، ونغفل عن أشياء كثيرة، وندوس على أشياء كثيرة.

رحلة أشبه ما تكون بسباق كبير يشارك فيه كل البشر، لكنه سباق من نوع مختلف، لا أحد من المشاركين فيه يعرف له خط نهاية، فقد يكون هذا الخط أقرب مما نتصور، وقد يكون أبعد مما نتوقع. لذلك نسابق الجميع والزمن للوصول إلى السعادة، لكنّ قليلا منا من يدركها، وكثير منا يعرف في نهاية الرحلة أنه سلك طريقا لا يوصله إلى ذلك الهدف.

يقول الداعية الشيخ سعيد الزياني، رحمه الله، في مقال له بعنوان "قصة الهداية والبحث عن السعادة": "ككل الناس، كنت أبحث عن الحياة الطيبة، وكنت أظنها في ما يعتقده الكثير، أنها في الحصول على أشياء معينة، كالمال والشهرة وغيرهما مما يطمح إليه غالبية البشر، فسعيت للحصول على ذلك".

لهذا التحق منذ أن كان طفلا دون العاشرة من عمره بميدان الإعلام، فشارك في التمثيليات وأناشيد الأطفال، ثم عمل بعد ذلك مذيعا ومعدا ومقدما لبرامج إذاعية وتلفزيونية في إذاعة وتلفزيون المغرب ما يقارب العشرين عاما، كما دخل مجال الفن، مطربا ومؤلفا وملحنا وممثلا.

وربطته خلال مسيرته الإعلامية والفنية تلك، علاقات بفنانين ومسؤولين كبار، حيث كان من أصدقائه الفنان عبد الحليم حافظ، ورئيس وزراء المغرب الأسبق المعطي بوعبيد، وغيرهم.

يقول الشيخ الزياني عن تلك الفترة: "مما جعلني أتعرف عن قرب على حياة كبار المسؤولين وأشهر الفنانين الذين كان أغلبهم قد حُرِم من السعادة التي كنت أبحث عنها، فبدأت أتساءل: ما هي السعادة.. ومن هم السعداء؟ في الوقت الذي كان يعتقد فيه الكثير من الناس أننا نعيش في سعادة نُحسَد عليها".

ويذكر أنه وهو على هذا الحال، وقع بين يديه كتاب عنوانه "الانتحار" لكاتب فرنسي، فوجد فيه إحصائيات للمنتحرين في الدول الأوروبية، تبيّن تزايد نسبة الانتحار سنة بعد سنة.

ويقول مؤلف الكتاب إن أكثر بلد يشهد عمليات انتحار هو السويد الذي يوفر لمواطنيه كل ما يحتاجونه، ورغم ذلك فإن عدد المنتحرين عندهم في تزايد، حتى أصبح لديهم جسر سُمِّي "جسر الانتحار" لكثرة الذين يلقون بأنفسهم من فوقه.

وقد تخلى الشيخ الزياني، رحمه الله، عن كل تلك الشهرة، وانخرط في مجال الدعوة أواخر عام 1984، وأقام بين قطر التي منحته جنسيتها، والإمارات التي كانت له فيها أنشطة كثيرة، حتى توفي في حادث سيارة عام 2009 على مشارف مدينة أبوظبي وهو عائد من السعودية.

يقول صديقي الذي نصحني بقراءة "مكاشفة القلوب" خلال حوار بيننا عن مفهوم السعادة، إنه بعد أن انتهى من قراءة الكتاب قرر أمرين: أن يزهد في ملذات الحياة، وأن يتخلص من شهوة الانتقام. وقد نجح في تنفيذ الثاني، لكنه فشل في الأول، خاصة وأنه ما زال شابا له تطلعات كثيرة ولديه طموحات كبيرة.

أقول لصديقي الذي استطاع أن يهزم شهوة الانتقام، بينما عجز عن الالتزام بمنهج الزاهدين، إن السيطرة على الشهوات خطوة إلى مقاومة إغراء الملذات، وكفى بالإنسان قناعةً وتوافقا مع النفس، أن يغط في نوم عميق عندما يضع رأسه على وسادته، تماما مثلما يفعل ذلك العامل البسيط وقت الظهيرة في شهور الصيف الحارقة تحت شجرة بين شارعين، غير آبه بصخب الذين يجرون من حوله لإدراك ملذات الحياة، رغم أنه لم يقرأ "مكاشفة القلوب" مثلنا.

Email