تأملات في ما يجري

ت + ت - الحجم الطبيعي

الناظر إلى ما يجري منذ قيام الربيع العربي لأكثر من سنة ونصف، يلحظ أن الثورات العربية أخذت طابعين: الأول، وهو ما جرى في "مهد الربيع العربي" تونس ثم مصر، وتمثل في ثورة عارمة كانت بؤرة تمركزها قلب العاصمة ولم تأخذ إلا أسابيع قليلة، وأتت بثمارها وهي تهاوي رأس النظام ونجاح الثورة في أولى خطواتها.

أما الطابع الثاني فهو الثورات التي امتدت شهوراً، كما حدث في ليبيا واليمن وما يحدث حالياً في سوريا. ونجد في هذا النموذج أن التدخل الخارجي هو الذي أسرع في التغيير (القذافي وعلي عبدالله صالح)، ولولاه لبقي الصراع ربما لمدة طويلة وكانت نتائجه غير معروفة. وها هو تحرك جديد يبدأ من أرض السودان، ولا أحد يستطيع التكهن بكيفية تطوره وأي المسارات سيأخذ.

والملاحظ أيضاً أن الأنظمة التي سقطت، أو بشكل أدق سقطت "رموزها"، كانت وما زالت لها قاعدة اجتماعية لا يستهان بها. فها هو أحمد شفيق ممثل "النظام القديم" يحقق نسبة تكاد تصل إلى النصف، في انتخابات حرة ونزيهة شهد لها القاصي والداني. وَدَك طائرات الحلفاء لمواقع القذافي وأنصاره لأسابيع، لم يثن هؤلاء عن الصمود وربما الاستبسال.

وانقسام العاصمة اليمنية كان واضحاً، وبقاء الجيش مع علي عبدالله صالح كان ظاهرة تصلح للدرس والتأمل، ومن المعروف أن الجيش يمثل جميع فئات الشعب.. وهذا الكلام ينطبق على الأسد والبشير وغيرهما.

ولعل القاعدة الاجتماعية للأنظمة المتهاوية، أو التي هي في طريقها إلى الهاوية، متنوعة. فأصحاب المصالح الذين تكونت لهم ثروات أو مراكز وظيفية عالية، يعتبرون أن النظام هو "ولي نعمتهم" الذي لا بد أن يشكروا نعماءه، والذين يرون أن مصالحهم ستتهدد برحيله.

وأغلب الظن أن هذه الشريحة ليست كبيرة، ومعظم هؤلاء قد حصنوا أنفسهم ضد "عاديات الزمان وتقلباته"، بالحسابات البنكية خارج بلدانهم وبشراء العقارات وغيرها، خاصة أن متسعاً من الوقت كان (وما زال) أمامهم.

وفئة أخرى ذات وزن، تتخوف من الثورة وإن كانت ترغب في التغيير "السلس"، وهؤلاء هم التجار أو "البورجوازية الوطنية"، الذين بنوا ثرواتهم بالطرق الشرعية والمستقيمة، وبعضهم ينتمي إلى عائلات عريقة توارثت الثروة والمكانة الاجتماعية المرموقة، رغم ما قامت به الحكومات العسكرية المتعاقبة من تحجيم لدورهم.

ويشير تحليل معمق وضعته مجموعة مرموقة من كتاب دير شبيغل الألمانية (4/7/2012) بعنوان: "أين تتجه ثورات الشرق الأوسط"، إلى أن "تجار دمشق وحلب يخشون عواقب الأمور بعد سقوط بشار الأسد"، ودير شبيغل هذه من أكثر الصحف الألمانية والعالمية تأييداً لثورة الشعب السوري.

وآخرون لا يرغبون أو غير متشجعين في تأييدهم للثورات العربية، لأسباب عقائدية. فالسلفيون وإلى وقت قريب من سقوط حسني مبارك، كانوا ضد "الخروج على الحاكم" درءاً للفتنة والشقاق، وهذا التيار موجود في جميع البلاد العربية والإسلامية. أما الصوفيون، فهم بعيدون في الأساس عن الشأن السياسي.

لكن الغريب أن يصطف بعض الليبراليين والتقدميين إلى جانب هؤلاء في عدم تشجعهم للثورات العربية، وفي ترددهم في تأييدها، وحجتهم في ذلك أن تلك الثورات، التي أشعلها بعض الشباب "الليبرالي المتحمس"، قد قدمت "كرسي السلطة" على طبق من ذهب للإسلاميين، وأن هؤلاء الإسلاميين هم أبعد الناس عن الإيمان بمبدأ "تداول السلطة". لسان حال هؤلاء يقول: "نارك ولا جنة هلي"، أي نار السلطة بقمعها، ولا الوعود العسلية التي يقدمها هؤلاء الإسلاميون!

فئة أخرى أيضاً هي رصيد للأنظمة "السابقة"، أو "الحالية" التي هي في طريقها إلى الزوال، وهي الأقليات العرقية والقبلية والدينية والمذهبية. رأينا كيف أن "الأقباط" قد صوتوا "بالجملة" لشفيق، لا حباً للنظام القديم، لكن خوفاً من المتشددين دينياً. والمنظر تكرر في اليمن بانقساماته القبلية المختلفة، وهو يتكرر حالياً أثناء الانتخابات الليبية، وفي الحرب الأهلية الدائرة في سوريا. فالمسيحيون والأقليات المذهبية الأخرى، تخشى الانتقام والتهميش كما حدث في التجربة العراقية المرة.

إذن، الوحدة الوطنية يجب أن تكون الأولية الأولى للأنظمة الوليدة.

 

Email