لم يكن رحيل ياسر عرفات مفزعا بالدرجة التي أثارتها التحقيقات الأخيرة حول ملابسات مرضه وموته، والتي بثتها قناة الجزيرة، الأمر الذي أعاد فتح ملف ياسر عرفات الإنسان والمناضل والرئيس والمفاوض.

وسجل عريض لرجل عاش حياة دراماتيكية، ويبدو انه مات أيضا بصورة دراماتيكية. فالمشهد الأخير لعرفات وهو يطلق قبلاته الشهيرة محمولا، استعدادا لدخوله المستشفى، تؤكد أن الرجل كان متفائلا جدا بالخروج سريعا والعودة إلى العيش تحت الأضواء، لكن عرفات لم يمكث طويلا في المستشفى الفرنسي العسكري، وأعلنت وفاته في الحادي عشر من نوفمبر 2004، بعد خمسة عشر يوما أو أقل قضاها في المستشفى.

هذه المشاهد التي تعيدها الذاكرة بتحفيز من الوقائع الأخيرة التي بثتها الجزيرة، والتي استجمعت الشكوك حول هذا الرحيل، الذي يعد في حقيقة الأمر مجرد عملية لتصفية الرجل، تمت بتقنيات عالية بحيث لا يمكن للمشاهد العربي والمتابع، إلا إعادة مشهد صراخ السيدة سهى الطويل وهي تشدد في حوارها مع القناة ذاتها إبان وفاة عرفات، على قضية التوريث التي يقوم بها "عباس وزمرته" كما وصفتهم آنذاك.

ورغم ذلك ذهبت صرخاتها سدى، وأسدل الستار سريعا على موت عرفات وطوي سجله للأبد كما بدا للبعض، وتعاطف بعضهم مع زهوة عرفات الابنة، التي لن تكبر في حضن أبيها ولن ينوبها من الحب جانب.

وهنا كان يلمز البعض إلى مليارات عرفات التي كان يدعي البعض بأن عرفات وضعها في بنوك سويسرية، قامت منظمة التحرير بورثها والتمتع بها، إلا أن الهمسات الخفية والمعلنة بأن الرجل لم يمت موتة ربه الطبيعية، وإنما هناك أيادٍ اغتالت هذا الرجل الذي نصبه البعض زعيما وطنيا للقضية الفلسطينية.

ورغم أن البعض قد لا يتفق على وصفه بهالة الزعامة، إلا أنهم جميعا معنيون الآن بكشف الأسرار حول ملابسات وفاته، فأصابع الاتهام جميعها تشير إلى أن إسرائيل الدولة النووية، استطاعت أن تخترق سياج الحماية الذي يحيط بعرفات، من مريدين وثوار ورجال عرفوا بأنهم في الأساس رجال عرفات، وقامت، والحجة على الراوي، بتسميمه بعنصر البولونيوم النووي المشع، والذي وجدت آثاره في ملابسه.

ولعل الحديث لبعض الفلسطينيين الذين وجدوا في أهمية إعادة التحقيق، مطلبا يفرضه الضمير الإنساني والأمانة التاريخية التي يمكن أن ترد جزءا من الجميل لعطاء عرفات في نشر القضية الفلسطينية ووضعها على قائمة أهم القضايا السياسية في العالم، والقضية الأوحد التي كانت قد كرست لها منظمة الأمم المتحدة فصولا طويلة من اجتماعات وخطابات وقرارات و"فيتوهات".

لذا حين تأتي سهى عرفات أرملته، بالتعاون مع قناة الجزيرة، لنبش المسكوت عنه، فإنه بالضرورة سيقوم من يقول "لبيك يا عرفات" من باب درء الشبهات عنهم، وبالوقوف على ملابسات هذه القنبلة الإعلامية، التي يحلو للبعض وصفها بذلك، فإن التوقيت قد يأتي موائما لحالة الثورة والحماس التي تعيشها الشعوب العربية.

والتي خرجت عن صمتها المألوف، واستطاعت أن ترفع صوتها وتقول ما لم يكن يقال حتى وقت قريب. وقد يشكل هذا التحقيق فاتحة لإجراء مزيد من التحقيقات في موت كثير من الزعامات العربية، كموت جمال عبد الناصر المشكوك في أمره، وموت هواري بومدين، الذي يقال إنه تعرض لعملية تسميم بطيئة شبيهه بحادثة عرفات نفسها!

لكن التساؤل يظل يراود البعض، وهو؛ لماذا من الأساس يماط اللثام عن عملية اغتيال عرفات؟ ومن سيستفيد منها؟ وهل تهدف، كما أعلن، لفضح إسرائيل أمام المجتمع الدولي؟ أم أن الفضيحة ستطال كثيرا من الرؤوس الفلسطينية التي يرى البعض أنه حان وقت قطافها؟

إن السنوات التي قضاها عرفات في قبره، كفيلة بأن تجعل هذا الرجل أسطورة في حضوره وغيابه، وأسطورة في حياته الطويلة التي قضاها في رئاسة منظمة التحرير، وأسطورة في كيفية تحول الثوري إلى مفاوض مهادن، وكيفية سقوطه في نظر البعض بعد اتفاقاته السرية مع العدو. فعرفات خلّف وراءه جيلا فلسطينيا يتهم اليوم بأنه أجهز على القضية.

وأصبح انتهازيا لثروات المنظمة المليارية، التي لم تعبأ لجوع شعبها أو لمعاناته الطويلة، لذا حين تطلق رصاصة عرفات على الرؤوس، فإن العيار الذي لن يصيب «سيدوش» كما يقول المثل.. فمن سيصاب بصداع هذه التحقيقات؟