جاسم القطامي.. سيرة عطرة

ت + ت - الحجم الطبيعي

تعرفت عليه عن كثب في إحدى ليالي شتاء العام 1990، حينما كنا متجمعين خارج ديوان السيد راشد المحارب للمطالبة بعودة العمل بدستور 1962. كان جالساً وقد التف حوله جمع من الشباب، أذكر منهم زميلي أستاذ النحو والصرف د. خالد الميعان، يستمعون إليه وهو ينشدهم أبياتاً حماسية من شعر المتنبي، من قبيل "الخيل والليل والبيداء تعرفني".

 كنت قد سمعت عن أبي محمد، إذ كان أشهر من نار على علم، لكنني لم أحتك به، لأنني حينما ذهبت إلى "نادي الاستقلال" في مطلع شبابي في العام 1972، كان هو وأنصاره في "التجمع الوطني" قد انسحبوا من النادي، حيث كان قد دب الخلاف في حركة القوميين العرب بعد هزيمة العام 1967.

وكانت تلك الليلة مناسبة للتعرف على شخص عظيم، أخذت تبرز سجاياه الكريمة أكثر لدي حينما بدأت أتردد على ديوانه العامر بين الفينة والأخرى في أمسيات الاثنين. فألفيته شيخاً عربياً، لا ينقصه سوى مضارب وخيمة يستقبل فيها ضيوفه بالسعة والترحاب والبشاشة.

وبكرم العشاء الفاخر الذي كان يجهزه طباخه الماهر القادم من بلاد النوبة. كان ينهض مرحباً ومودعاً كل فرد، سواء كان من علية القوم أم من محبيه من عوام الناس. يحفظ أسماءهم واحداً واحداً، ويتجاذب أطراف الحديث معهم جميعاً على حد سواء، علماً بأن ديوانيته كان يغشاها الشيوخ والوزراء وكبار تجار الكويت، ناهيك عن أعضاء مجلس الأمة، وعلى رأسهم جاسم الخرافي وأحمد السعدون.

كان شجاعاً وصاحب موقف، ففي مطلع حياته الوظيفية حيث كان مديراً للشرطة في الكويت، رفض قمع المظاهرة التي خرجت للتنديد بالعدوان الثلاثي الذي وقع على مصر من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في العام 1956. وقدم استقالته على إثر ذلك، وكان قد تخرج للتو (1954) في كلية الشرطة في القاهرة. وفي الذكرى الأولى لقيام الوحدة بين مصر وسوريا في 1959، ألقى خطاباً حماسياً في استاد ثانوية الشويخ، طالب فيه علناً بحكم ديمقراطي ودستور للبلاد ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

أبو محمد، مع ذلك، كان معارضاً حسب الأصول ـ إن جاز التعبير ـ فشجاعته لم تكن لتدفعه إلى الإسفاف والابتذال الذي نراه هذه الأيام، ممن يسمون أنفسهم بالمعارضة، أو كما وصفهم النائب السابق صالح الفضالة "معارضة بزور" (معارضة أطفال).

والفضالة يروي لنا حادثة في هذا المقام حينما كان نائباً للرئيس في مجلس الأمة للعام 1985، إذ أخذ دور الرئيس السعدون في غيابه في إحدى المرات وأدار الجلسة، فتحدث النائب جاسم القطامي دون أن يأخذ الإذن "فما كان مني ـ كما يقول الفضالة - إلا أن طلبت منه السكوت والجلوس وأخذ دوره، فأجاب القطامي بحاضر سيدي". وكان الفضالة يومئذ شاباً، في حين كان القطامي كبيراً في السن ويحمل إرثاً يعرفه جميع الكويتيين.

ولعلنا لا نزيد على معلومات القارئ الكريم، لو عددنا بطريقة أرشيفية عطاء هذا الرجل، بكونه عضواً في مجلس الأمة الكويتي لفترات متكررة، أو أنه أحد مؤسسي مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، وكذلك المنظمة العربية لحقوق الإنسان ونسختها الكويتية. لكنني أريد فقط أن أروي للقارئ الكريم تمسك هذا الرجل بمبادئه الوطنية والقومية، بموقف غير سياسي رواه لي زميلي د. خالد عبد الكريم الميعان.

قال الميعان: رافقت السيد جاسم القطامي إلى بغداد في العام 1989، للإشراف على انتخابات المجلس الوطني الذي بشر به صدام حسين ليكون فاتحة عهد جديد من "الديمقراطية"، حيث دعي كثير من الهيئات الشعبية العربية، وكان من ضمنها ممثلون عن الهيئات الشعبية في الكويت. وفي فندق الرشيد وجد القطامي بشتاً نجفياً أصيلاً (عباءة من صنع النجف)، كان سعره ألف دينار عراقي.

وكان الدينار العراقي آنئذ يساوي مائة فلس كويتي في السوق السوداء، أي أن كل دينار كويتي يساوي عشرة دنانير عراقية. بمعنى أن سعر البشت كان مائة دينار عراقي.

لم يرتض القطامي أن يتعامل كما كان يتعامل أفراد كثير من الوفود الشعبية الذين كان يسهل لهم نظام صدام ذلك، بل ذهب إلى صراف الفندق الرسمي وصرف الدينار الكويتي بدينار عراقي (دينار ينطح دينار)، واشترى البشت بألف دينار بسعره الرسمي. يقول الميعان: "كبر القطامي هذا في نظري".

رحم الله أبا محمد، ولنا وقفات كثيرة في ذكر مناقبه.

 

Email