الرحلة من الصلة إلى الصدى

ت + ت - الحجم الطبيعي

في مأدبة غداء أقيمت في سرداب كاتدرائية القديس بولس قبل أن يستلم الدالاي لاما جائزة «تمبلتون»، جلست بجوار الكاهن مارك أوكلي. فقال: إننا بحاجة إلى تجاوز السطحيات إلى الأعماق، وتجاوز مستجدات اللحظة العابرة إلى أصداء الروح. ولخص أوكلي الحلقة المفرغة، التي غالبا ما نجد أنفسنا عالقين فيها بقوله: إننا ننفق أموالا لا نملكها على أشياء لا نريدها من أجل إقناع أناس لا نحبهم.

وللعثور على راحة البال التي وحدها تستطيع أن تحل محل هذا البحث غير الهادف الذي أفضى إلى وباء من القلق والتوتر والعقاقير، المشروعة وغير المشروعة، يتطلع الدالاي لاما إلى العلم (علم الأعصاب على وجه التحديد) لإقناع مجتمع متشكك وعلماني على نحو متزايد بقدرة التأمل والتراحم على تغيير حياتنا وعالمنا.

وكما ذكر في كتابه الذي صدر عام 2005 تحت عنوان «الكون في ذرة واحدة: التقارب بين العلم والروحانية»، فإن فائدة العلم الكبرى هي قدرته على المساهمة إلى حد كبير في التخفيف من المعاناة على الصعيد الجسدي، ولكن من خلال تهذيب صفات القلب البشري فحسب، ونستطيع من خلال مواقفنا البدء في معالجة معاناتنا النفسية والتغلب عليها. إننا بحاجة إلى الاثنين معا، بما أن تخفيف المعاناة يجب أن يحدث على الصعيدين الجسدي والنفسي على حد سواء.

وفي إطار تقديم جائزة «تمبلتون» للدالاي لاما، أشار المنظمون إلى «صلته الوثيقة بالعلم وبأشخاص يبعدون كل البعد عن تقاليده الدينية الخاصة»، وإلى حقيقة أنه على مدى السنوات الـ25 الماضية، ركز على الرابط بين تقاليد العلم الاستقصائية والدين وشجع على إجراء دراسات استقصائية علمية جادة لقوة التعاطف والإحسان، على سبيل المثال، وقدرتهما على معالجة مشكلات العالم الأساسية.

وفي حين أن الدالاي لاما يؤكد أن الادعاءات الدينية يجب أن تفسح المجال لنتائج العلوم التجريبية، فإنه يعتقد أيضا أنه يتعين علينا أن «نضمن ألا ينفصل العلم أبدا عن الشعور الإنساني الأساسي بالتراحم مع غيره من الكائنات».

وفي صميم نهج الدالاي لاما يكمن الاعتقاد بتحولية الوعي، وهي فكرة أننا نستطيع، من خلال ممارسات معينة، أن نغير كياننا الداخلي. وقد أوضح الدالاي لاما الأمر قائلا: «ذلك يعني أن تنمية اللطف الناشئة عن الحب يمكن، خلال فترة من الزمن، أن تضعف قوة الكراهية في العقل». وخلافا للصفات الجسدية فإن «صفات العقل تستطيع أن تنمو بلا حدود»، مما يعني أنه يمكن لصفة عقلية، مثل التعاطف، أن تنمو الى درجة لا حدود لها.

كيف يمكن القيام بذلك؟ تتمثل إحدى الطرق في ممارسة اليقظة، وهو تركيز الذهن على عملية واحدة، تتمثل بالتنفس في الغالب. ومن الطرق الأخرى تقنية يسميها «الأخذ والعطاء». ويصفها على النحو التالي: إنني أتصور أني أرسل عواطفي الإيجابية، مثل المحبة والسعادة، إلى الآخرين. ثم أتصور أنني أتلقى معاناتهم، وعواطفهم السلبية. وأنا أفعل هذا كل يوم، وأولي اهتماما خاصا للصينيين، لا سيما أولئك الذين يرتكبون أشياء فظيعة بحق أهالي التبت.

وأحد أهداف الدالاي لاما من الجمع بين العلم والدين دراسة الآثار التحويلية لهذه الممارسات وتعزيزها. فمنذ عام 1987، واظب على تنظيم حوارات بين العلماء والمفكرين الدينيين حول مجموعة من المواضيع، بدءا من الفيزياء وعلم الفلك ووصولا إلى التعاطف والرحمة.

يقول الدالاي لاما: «في هذه الأوقات تؤدي العواطف الهدامة، مثل الخوف والغضب والكراهية، إلى انتشار المشكلات المدمرة في جميع أنحاء العالم، إلا أنني أعتقد أننا نملك فرصة ثمينة لإحراز تقدم في التعامل معها، من خلال التعاون بين الدين والعلم. لقد أظهرت التجارب بالفعل أن بعض الملتزمين بالدين يتمكنون من تحقيق حالة من السلام الداخلي، حتى عندما يواجهون ظروفا مثيرة للقلق.

 وتبين النتائج أن مثل هؤلاء الأشخاص يكونون أكثر سعادة، وأقل عرضة للانفعالات المدمرة، وأكثر انسجاما مع مشاعر الآخرين. وهذه الأساليب ليست مفيدة فحسب، وإنما رخيصة أيضا: إذ أنك لا تحتاج لشراء أي شيء أو صنع أي شيء في المصنع. كما لا تحتاج إلى عقار أو حقنة».

فكيف يمكننا أن ننشر هذه الأفكار؟ كيف يمكننا أن نعززها للتعامل مع التحديات الهائلة التي نواجهها في جميع أنحاء العالم؟ إحدى الطرق الجيدة للبدء هي محاولة محاكاة النهج الذي يعتمده هذا الرجل الرائع في العيش، حيث قال في العام الماضي: «ما يهم في الأمر هو أن أجعل من حياتي اليومية شيئا مفيدا للآخرين. لذا فإنني، بمجرد أن أستيقظ صباحا، أقوم بتشكيل ذهني. وخلال بقية اليوم، يكون كل من جسدي وكلامي وعقلي مكرسا للآخرين».

ويمكنكم أن تسموا ذلك بالخطوة الأولى في رحلتنا من «الصلة إلى الصدى».

 

Email