حوادث السير.. الواقع والتحدي

ت + ت - الحجم الطبيعي

في رحلتي الأخيرة إلى أوروبا، كانت مدينة براغ عاصمة التشيك إحدى محطاتي، ولفت انتباهي في هذه المدينة تقليد جميل يعملون به منذ خريف 2002، فما أن وصلنا إلى مشارف ابراغ»، أو ابراهاب كما يسميها التشيكيون، حتى شاهدنا أنوار جميع السيارات مضاءة متلألئة، على الرغم من أن الوقت كان نهارا، فالذي لا يعرف ابراغب سيتساءل حتماً:

 ما بال هؤلاء المجانين يضيئون أنوار سياراتهم نهارا؟ إلا أن امعرفة السبب تبطل العجبب كما يقول المثل. فقد أكدت دراسات قام بها التشيكيون أن إضاءة أنوار المركبات نهارا تقلل من عدد الحوادث المرورية بنسبة تصل إلى 0,7%.

وبناء على نتيجة هذه الدراسات حرصت الحكومة التشيكية على تعزيز هذا التقليد في وجدان الشعب التشيكي، وفرضت في المقابل غرامة مالية على كل من يتخلف عن هذا التقليد، وهو الأمر الذي يعد ميزة جميلة تحفل بها بلاد التشيك من ناحية، ومن ناحية أخرى قللت من حوادث السير ولو بشكل بسيط.

على ضوء هذا التقليد المميز، والذي اتبعته بعد ذلك دول أخرى مجاورة لجمهورية التشيك.. فإن تعميم هذه الفكرة على بقية دول العالم، وخاصة البلدان التي تكثر فيها الحوادث، كما هو الحال عندنا في العالم العربي الذي تخلّف فيه حوادث السير 40 ألف قتيل سنويا، حسب تقرير االمنظمة العربية للسلامة المروريةب لعام 2010، فمن الأهمية بمكان أن تتخذ دولنا جميع السبل التي تؤدي بالضرورة إلى إنقاذ الشباب العربي من كارثة الموت.

وهو الأمر الذي تتميز به دولة الإمارات كونها تؤمن بقيمة الإنسان وتعتبره الثروة الحقيقية للوطن بوجوده وعطائه وإبداعه، وبذلك تسعى المؤسسات المعنية بكل ما أوتيت من فكر وقدرة وميزانية، إلى الحد من الحوادث وبشتى الطرق.

وبالتالي لا يضيرها إن حاكت تجربة التشيك في هذا الشأن، ما دامت ستعمل على تقليل نسبة الحوادث القاتلة، أو أن تعتمد فكرة إضاءة اليْدب القريبة من التجربة نفسها، والتي وضعت في مقدمة بعض السيارات من الموديلات الجديدة عندنا ومهمتها الإضاءة نهارا.

فمن خلال رحلاتي المتكررة إلى مختلف الأقطار العربية، أشاهد في بعض الطرقات غرائب وعجائب بشرية يندى لها الجبين، وهو أمر أشبه بمعارك مرورية عشوائية، ساحاتها الطرقات وجنودها سائقو السيارات وبدون منتصر بطبيعة الحال، إلا من قدر الله تعالى له السلامة.

لا أدري ما الذي سيحصده هؤلاء المستهترون من هذه السرعة الجنونية والتهور العبثي، على الرغم من أن كل ما تقوم به الجهات المعنية من مبادرات وقوانين وإرشادات وعقوبات هدفها نشر الثقافة المرورية، وتعميق الوعي وتعزيز السلامة المرورية لدى أفراد المجتمع..

يتخيل هؤلاء أن هذا التصرف يجعلهم يشعرون بأنهم ملوك هذا الطريق أو ذاك، بل إن أحد الأشخاص المتهورين قال لي وبالفم الملآن، بعد أن ناقشته في الأمر وتحاورت معه بمرونة: إن السرعة هوايتي، فلماذا تريدون أن تحرمونا من هواياتنا؟ عجباً! الاعتداء على النفس والآخرين وعدم احترام القوانين أصبح هواية.. الله في خلقه شؤون"! يا أخي مارس هوايتك في حلبات سباقات السيارات المخصصة لهواة السرعة، وليس في الطريق العام. فأين الوعي من هؤلاء؟

وعلى صلة بالموضوع، فقد أشارت الإحصائيات التي قدمتها الإدارة العامة للتنسيق المروري في وزارة الداخلية الإماراتية، إلى أن السرعة الزائدة في مقدمة الأسباب المؤدية إلى وقوع الوفيات بين مواطني الدولة، وأظهرت الإحصاءات أن عدد الوفيات في العام 2010 بلغت (826) وفاة، وفي العام 2011 (720) وفاة، مع بعض الانخفاض الذي سُجل في السنتين الأخيرتين.

هذا من ناحية الخسائر البشرية لحوادث السير، ناهيك عن الآثار الاجتماعية والنفسية والمادية على الأسرة، مثل اختلال التوازن الأسري بفقدان رب الأسرة، وتدني مستوى الدخل، وتيتّم الأبناء، وترمّل النساء، والعجز الصحي والإعاقات بين فئات الشباب، فضلا عن الآثار الاقتصادية.

حيث إن تكاليف حوادث المرور على مستوى الدولة خلال الفترة من 2009 إلى 2011 ، بلغت 17 مليار درهم أو ما متوسطه %1.6 من الناتج المحلي الإجمالي للدولة للفترة ذاتها، كما جاء في التقرير الذي أعدته دائرة التنمية الاقتصادية في أبوظبي.

فمن كان يتصور أن تستمر موجة الطيش والتهور وعدم مراعاة حقوق الطريق، بعد كل هذه الإحصائيات التي عممت، والقوانين المرورية التي شرعت، والحملات التوعوية التي نظمت، والعقوبات الرادعة التي فرضت؟ فمن خلال ما نراه عبر اسينما الطرقات»، ندرك أن هذه الأمور لم تدخل في وجدان بعض السائقين ولا في حساباتهم، وظلت هوايتهم السلبية في استمرار.. فإلى متى؟

من هذا المنطلق، أرى أن الأمر يتطلب تكثيف الحملات التوعوية واستمرارها على مدار العام، حيث تصبح أسلوب حياة لدى أفراد المجتمع، بدءاً من البيت ثم المدرسة، مروراً بالمراكز الاجتماعية والنوادي الرياضية و"المولات»، وليس انتهاءً بدوائر العمل الرسمية والخاصة. كما أن الاستعانة بعلماء النفس والاجتماع، مهمة جداً لصياغة محتوى الحملات التوعوية حتى يكون التأثير الذي تحدثه أكبر..

ومن الأدوات الكفيلة ـ من وجهة نظري ـ بطرد الأفكار السلبية من عقول ونفوس المتهورين وتعزيز الأفكار الإيجابية بدلا منها: تعميم عبارات السلامة المرورية كـ"القيادة فن وذوق، للطريق حقوق، نود لك سلامتك، كن هادئا، أنا سائق ملتزم، أبنائي في انتظاري وغيرها"..

في الطرق والشوارع ومحطات البترول وعلى شاشات الإعلانات، كما يمكن أن نستخدمها في التطبيقات الإلكترونية للهواتف المتحركة والحواسيب الشخصية (بلاك بيري، وآي فون، وآي باد.. إلخ)، وألعاب الأطفال الإلكترونية ومواقع االفيس بوكب و"تويترب وغيرها، أي أن نضعها في صميم الفكر والعقل الباطن لدى أفراد المجتمع، فضلا عن محاكاة التجربة التشيكية التي تطرقت إليها في مقدمة المقال..

فالوعي أولا،ً هو العنوان الأمثل لحياة مرورية ملؤها السلامة والسعادة والأمان.

 

Email