انحسار التشدد الطائفي في المنطقة

ت + ت - الحجم الطبيعي

بدأت بوادر الانحسار الطائفي تلوح في الأفق؛ جماعاتٍ وأفراداً ذاقت الشعوب مرارة وبؤس التخندق الطائفي.

فكر تقوده مجموعة من المتطرفين والمتشددين، وبشكل انفصامي شبه جنوني لا نظير له عبر التاريخ والعالم الحديث. أذاق المتطرفون أتباعهم من الدهماء مرارة التراجع ومحاصرة النفس والآخرين لهم، والاحتكاك السلبي مع الفئات الأخرى. الفئات الأخرى قد تكون تشاركهم الجغرافيا والتاريخ والحضارة، ومصدر الماء والعيش، والمستقبل والمصير.

بوادر الانحسار بدأت تظهر على وجوه وتصرفات الساسة الطائفيين، الذين تربوا وترعرعوا في مهود وأحضان الفكر الطائفي الضيق. فكر لا يعترف بوجود الغير، لا نفسياً ولا روحياً ولا حتى جسدياً.

بدأ هؤلاء يتراجعون في تشددهم، ويظهرون، ولو خطابياً إعلامياً، تسامحهم مع الغير واستعدادهم للمصالحة، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه مما تبقّى من حطام نتيجةً لعبث أعمالهم وأقوالهم. بفضل أنشطتهم كانت الشعوب على وشك الدخول في حروب أهلية معلَنة أو خفية.

قد تكون هذه بشارة خير لأهل المنطقة، الذين يتوقون لتوطيد السلم والأمان والاستقرار، والتكامل الاجتماعي مع الغير. الناس العاديون لا يريدون شعارات دعائيةً تحريضيةً، تملأ الحيطان والجدران والفضاء المحيط، بعد أن عزّت عليهم لقمة العيش الكريمة والنوم الهادئ المريح.

لا يريدون تقديم خدمة مدفوعة الثمن من جانبهم، لصالح مجموعة من مجانين ومهووسين، بزعم التفاني في الإخلاص للأديان والمذاهب والأعراق. لا يريدون الاستمرار في التضحية بمستقبل أبنائهم التعليمي والاجتماعي، والصحي النفسي. تأكد لهؤلاء أنهم يعبدون (!) قادةً، لا يرتوون دماً ولا مالاً ولا جاهاً ولا سلطةً.

التجارب في الدول التي تخلصت من أنظمة سياسية دكتاتورية، أثبتت ضعف المتشددين على قيادة الشعوب نحو السلم الاجتماعي والاستقرار الإيجابي. يستمر المتشددون في الشحن والتحريض على الكره والانتقام، والنبش في قبور أهل الماضي؛ في كل برنامج إعلامي يخلقون "قميص عثمان" جديداً.

يوهمون أتباعهم من المغفلين والمستغفلين، أنهم بذلك يحفظون العهود مع الماضي ويضمنون الوصول إلى بر الأمان مستقبلاً، وحتى إلى ما بعد الموت. يودون لو يرون ما أمكن من خطوط تماس إثنيات المنطقة ملتهبة، أينما كان هنالك وجود لفسيفساء طائفية سلمية، دينية أو مذهبية أو عرقية. بفكرهم الضيق النشاز، حولوا أهل المنطقة إلى مسحوق بارود اجتماعي متفجر، لا يستفيد منه إلا أعداء الوطن والأمة والشعوب.

الغريب في أمر هؤلاء المتشددين، إذا ما تُرك الميدان لهم خالياً، هو سهولة قيادتهم لمجموعات عريضة من الدهماء، يخلصون لهم حتى النفس الأخير من حياتهم. يعود الفضل في ذلك إلى الجهل المطبق، والتخلف التعليمي الذي يسيطر على الأتباع. جهل يجعلهم ينقادون خلف قياداتهم انقياد القطعان خلف الجزارين.

أتباع يتمتعون بقصور ذاتي كبير، لا يسألون أو يتساءلون أو يستفسرون أو يستفهمون أو يتفكرون. يسيرون وراء مظاهر خارجية خادعة زائفة في أغلب الأحيان، مثل لقب أو لباس أو هيئة أو نسب؛ لا تسمن ولا تغني من جوع في كل الأحيان.

الأولويات عند الشعوب تتلخص في تأمين لقمة العيش الكريم، المسكن المناسب، مستقبل الفرد والأسرة والأولاد؛ البحث عن التحديث والتطوير والترفيه يأتي في ما بعد ذلك.

كيف لهذا كله أن يحل في المكان وهنالك أبواق دعاية ودعاية مضادة؟! تملأ المكان تحريضاً وصراخاً وعويلاً، ومادةً إعلاميةً مضلِّلةً هدّامةً، لا تبقي للآخرين ولا تذر.

تجمّعت القوى المحلية والإقليمية والدولية على هؤلاء لوقفهم عند حدودهم، حتى إذا ما تطلَّب الأمر اتخاذ إجراءات صارمة ثمة عادلة، لردعهم والتخلص من تبعات الاستمرار في فكرهم التحريضي الضيق الهدّام. لكن لن تدرك الشعوب مبتغاها في الحياة الحرة الكريمة، إلا بعد مضي وقت لا يُستهان به وبذل جهود مناسبة، على المستوى التعليمي والتثقيفي والاجتماعي والأمني؛ وكما يقول المثل الصيني؛ فإن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.. ثمة بإرادة متواصلة.

Email