الزمن الجميل.. رحل مع أصحابه

ت + ت - الحجم الطبيعي

شاع خلال السنوات الأخيرة في الأوساط الاجتماعية والثقافية العربية مصطلح "الزمن الجميل"، وخصوصا لدى جيل يعيش اليوم بقايا ذلك الزمن الرائع، كونه تمتع بفصوله وقسماته، بل ويعيش اليوم على ذكرياته الرائعة، نادما أو متأسفا، وهو يرى ما آلت إليه الحياة العربية، وكيف انطفأت شعلتها المضيئة الوضيئة، وانكفأت جمالياتها الزاهية. أسمع اليوم من يتمنى عودتها، وهو يتألم لما جرى من الأحوال وانهيارات من دون أن يدري أن رجوع القديم إلى قدمه محال! إنها ليست انهيارات سياسية فقط، بل هي تناحرات اجتماعية، وتشظيات ثقافية، ورخويات لا ترحم منذ أزمان، بطغيان ظواهر طفيلية غاية في السوء.. والمشكلة تخص مجتمعاتنا أولا وأخيرا.

علق أحدهم وهو في الستين من العمر قائلا: أراك قادما من الزمن الجميل! قلت: كيف عرفت؟ قال بعفوية مباشرة: أراك تسمع ـم كلثوم وعبد الوهاب وكل ذاك العنقود الجميل. قلت له: صوت أم كلثوم سيبقى، ولكن راحت معها كل التقاليد الجميلة، ورحلت كل الكلمات الجميلة.. رحل زمن حضري متمدن، كانت الناس تؤمن أن الحياة لا بد أن تكون جميلة مع شمّ النسيم، وأن الصباح رباح، وأن الدين المعاملة، وأن القناعة كنز لا يفنى، وأن العيش لا بد أن يكون كريما، وأن الحريات الشخصية مقدسة، دون فرض أي إنسان أو حزب أو سلطة أية وصاية على الآخرين.

 كانت الكرامة فوق أي اعتبار، وأن الدين لله والوطن للجميع. زمن لم يولد من فراغ ولم يولد من بؤس التفكير، ولم يستلبه المتزمتون أو المتهتكون.. ولم يسحقه المتعصبون والمعقدون، ولم تتفش فيه التناقضات الصارخة، ولم تزدحم فيه العشوائيات السكنية، ولم تزحف عليه قيم التخلف والانغلاق وتغلب عليه ثقافات الكهوف الحجرية، ولم ينتهك من قبل المستبدين والطغاة، ولم يذبح الناس أطفالا وشيوخا كالشياه في شوارعهم أو تقصف بيوتهم بالدبابات، ولم يمتلئ الواقع بالفاسدين والمفسدين!

كان أصحاب الزمن الجميل يعيشون بشكل طبيعي وآمن.. كلّ يمارس دوره ضمن القانون، العلاقات الاجتماعية قوية، والإبداعات الثقافية مترعة، والحريات الفكرية نخبوية واسعة، والمنافسة شريفة، والثقة متبادلة في المجتمع، والأمانة تؤدى لأصحابها.. وكانت القوى المنتجة فاعلة، والنقابات مؤثرة، لا فروق بين أقليات وأكثريات، والأحزاب والتجمعات السياسية نشيطة، والنخب المثقفة منسجمة ومستقلة الإرادة، والمعارك الثقافية والفكرية والإبداعية شريفة وراقية، والمرأة محترمة في الشارع، أو في السوق، أو في السينما، أو في وسائل النقل أو المدارس والجامعات. كان ذاك الزمن يخلو من الأوبئة التاريخية، والانقسامات والتشظيات الطائفية والعرقية، لكن مع وجود طبقات ومستويات.. كان الإنسان يعرف قدر نفسه ومكانته، وحتى مع التجاوزات، فالعنف لا نجده لا ضد الأبرياء ولا مع الأشقياء.

كان زمن الموازين الحقيقية، بحيث كان يخلو من أية سلطة للطفيليين والطارئين والدخلاء والرعاع والمطاردين، فهم في موقعهم الأدنى، دون استخدامهم في مرافق الدولة ودون اعتمادهم من قبل المجتمع! الكل يعرف حدوده ويدرك خطوطه، ويفهم قيمته. لم تبتذل الأشياء ولم تفتقد المعاني إلا بعد انقلاب الموازين. كانت النفوس أكثر طيبة، والمحبة تطغى على الكراهية، كانت الناس تتعلم بقراءاتها الكثيرة، وتهوى الجديد، وتعشق المبدعين. كان الرضى مزروعا في النفوس، وكانت المشاعر أكثر رومانسية وجمالا، بحيث يهتم موسيقار كبير بأغنيات الأطفال.. كانت الأهواء أكثر وداعة وودادا، والشوارع أكثر نظافة واخضرارا. كانت الابتسامة رفيقة للبشر، أطفالا، وشبابا، وكهولا، وعجائز..

وكانت الحياة أكثر أمانة وأمنا وإيمانا، والمدارس أكثر تربية ومواهب، ونظافة ونجابة ونظاما، كانت الأناقة عنوانا: منديل أبيض على الصدر، وحذاء يلمع، وزهرة بيضاء في المناسبات، والنسوة شعر مكهرب، وقلادة جميلة وحذاء مدبب الرأس.. وكانت للمجالس تقاليدها الرائعة، فالمتحدث لا يقاطع أبدا وللمراسيم جمالياتها.. وتجد عائلات تذهب لمشاهدة فيلم جديد في واحدة من السينمات، أو يجلس الرجال مع النساء في حفل غنائي تحييه أم كلثوم أو غيرها من الفنانات.. يجلس الجميع من دون أية موانع ولا أية حساسيات، ومن دون سدود ومغلفات وتعقيدات.. تجد طالبات معاهد وكليات، يذهبن بعيدا للدراسة قبل سبعين سنة، ويسكن لوحدهن في عاصمة أو مدينة بعيدة عن أهلهن، من دون قيود ولا أية حدود كالتي فرضت في مجتمعاتنا فرضا..

كانت مجتمعاتنا أكثر انسجاما، إذ تكاد تخلو من الاتهامات العمياء، ولا يمكن أن يستقوي الصغار على الكبار، ولا يتجاسر الجهلاء على العلماء، ولا تسمع بالسباب والشتائم على قارعة الطريق أو في أروقة المؤسسات، وللجامعات والمدارس حرمتها، والطلبة يحترمون معلميهم ويجلون أساتذتهم.. ربما كان القدح سياسيا، ولكن المجتمع أكبر في سلوكياته مما تلاحق فيما بعد من انتكاسات في صميم القيم العامة. لقد انتكست القيم، وضاعت المقادير، وتشوهت الأذواق، واستفحلت الانغلاقات، وندرت الكلمات الجميلة، وتلوثت الشوارع، وحلت الكراهية واستشرت الضغائن.. ندر الشعراء، وهرب العلماء، وتيبّست الذاكرة، ومات الطرب، وحّلت البكائيات وأصبحت الحياة مجالس عزاء متنقلة، واجتاح الموبوؤون كل الحياة وقتلوا الحرية فيها، فالحياة في أي مجتمع لا يمكنها أن تتنفس بلا حريات..

 

Email