الحداثة وما بعد الحداثة.. ضرورة استئناف التعريف

ت + ت - الحجم الطبيعي

قد يكون فهم المصطلح وطرق استعماله في الخطاب الفكري العربي، من أظهر المشكلات المعرفية المعاصرة. على أن سوء التعامل مع المفاهيم والمصطلحات، غالباً ما يؤدي إلى خلل فادح في قراءة الظواهر السياسية والفكرية، بما يترتب على ذلك الخلل من تصورات وأحكام تنتهي على الجملة إلى البطلان.

 من الشواهد البيّنة على هذه المشكلة؛ طريقة التعاطي مع مصطلحي الحداثة وما بعد الحداثة. وفي الثقافة العربية المعاصرة على الخصوص، يحتدم نقاش مرير ومديد حول المصطلحين المذكورين من دون أن يصل إلى مستقر.

أما السبب في ذلك فراجعٌ إلى أمرين: الأول؛ شبكة التعقيدات العلمية والايديولوجية التي رافقت ولادة المصطلح في مهده الأوروبي الأصلي في القرن السادس عشر. والثاني؛ الاضطراب الذي عصف بالنخب العربية والإسلامية، وهي تتلقى التدفّقات المعرفية لمصطلح وَفَد إليها على أحصنة الصعود الجامح للسيطرة الإمبريالية الحديثة في نهاية القرن التاسع عشر.

ولئن كان لهذين الأمرين مجال آخر من التحليل والاستقراء، فقد وجدنا من المفيد معرفياً بسط مصطلح الحداثة وما بعدها، على نصاب التعريف. وإذاً، ما المقصود من مصطلح الحداثة وما بعد الحداثة؟ وما الدلالة التاريخية والفلسفية التي ينطوي عليها؟

أولاً، معنى الحداثة: وهو من المصطلحات العلمية، التي احتلت مكانة مركزية في الفلسفة، والفكر السياسي، وعلم الاجتماع. بل إنها تعدّت هذه المجالات من العلوم الإنسانية لتدخل في مجال الأدب، والشعر، والمسرح، والفنون التشكيلية، وسائر أصناف الجماليات.

ولعله يمكن ـ وبصورة إجمالية ـ تعداد الخصائص الإيديولوجية الرئيسية للحداثة، والتي تمثل بدورها خصائص التنوير، على الشكل التالي:

- الاتكاء على قدرات العلم والعقل الإنساني، لمعالجة الاختلالات المجتمعية ومفارقة فضاءات الجهل والخرافة.

- التأكيد على مفاهيم من قبيل التقدم (Progress) والطبيعة (nature)، والتجارب المباشرة (Direct experience).

- المعارضة الواضحة لسلطة الكنيسة وقوانينها.

- تعظيم الطبيعة، وعبادة الإله الطبيعي.

- في المجال السياسي؛ الدفاع عن الحقوق الطبيعية الإنسانية بواسطة حكومة القانون، ونظام منع استغلال السلطة.

- أصالة الإنسان؛ أي أنسنة المجتمع، وكذلك أنسنة الطبيعة (Anthropomorphism) .

- الارتكاز بشكل أساسي على المنهج التجريبي والحسي، في مقابل المنهج القياسي والفلسفي.

- الوضعية بوصفها البنية المنهجية للحداثة.

وتعد الحداثة من الناحية التاريخية حصيلة عصر النهضة. ومن عصر النهضة أيضاً تنطلق الأنسنة، أو «محورية الإنسان» في العالم، واعتباره بمثابة الجوهر والروح للاتجاهات الحداثوية.

وليس خافياً أن التعريفات التي وضعت لمفهوم الحداثة قد تعددت وتنوعت. ومن هذه التعريفات، أن الحداثة تعني النهوض بأسباب العقل، والتقدم والتحرّر. لكن ثمة من علماء الاجتماع من اختزل المفهوم إلى جعله يعني «قطع الصلة بالتراث»، أو "طلب التجديد" أو "محو القدسية عن العالم".. أو أنه "العقلنة" و"العلمانية".. الخ.

وعلى العموم، فإن مفهوم الحداثة إلى أيامنا هذه، وبعد أكثر من خمسة قرون على انطلاقه، ظل مجال نقاش بين أهل الفكر والبحث والدراسة في العالم كله.

ولكثرة التفسيرات التي وضعت للمفهوم، فقد توصل عدد من الفلاسفة في الغرب إلى نتيجة مؤداها أن الحداثة هي مشروع لم يكتمل بعد.. وهكذا امتدت التعريفات لتتواصل مع مفهوم جديد شاع في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وهو ما عرف بمفهوم ما بعد الحداثة.

ثانياً، مصطلح ما بعد الحداثة: إنه بتكثيف شديد، مفهوم ينتقد الحداثة ولا ينفصل عنها. وبيان ذلك أن مفهوم ما بعد الحداثة (Postomodernism) يرتبط عضوياً بمفهوم الحداثة، إذ لولا هذا الأخير لما أمكن تداول الأول ليصبح مفهوماً شائعاً تدور حوله وبواسطته مناقشات لا تنتهي.

من الناحية اللغوية، فإن الـ«ما بعد الحداثة» دلالة على استمرار أمرٍ ما، فهي لا تعني نهاية الحداثة، بل هي استمرار لها بمناهج ووسائل أخرى. وقد استفيد من هذا المصطلح في تاريخ الأدب الأميركي اللاتيني في الفترة الفاصلة ما بين الحربين العالميتين.

ومثلما تعامل العلماء وفقهاء الاجتماع السياسي، مع مفهوم الحداثة لناحية تعدد تعريفاته، كذلك شأنهم مع مفهوم ما بعد الحداثة. وفي هذا الصدد يعتقد الفيلسوف الفرنسي جان فرنسوا ليوتار، أن العصر ما بعد الحداثوي هو عصر التشكيك وموت التعاريف المنطقية.. ويمكن تلخيص التحديدات التي قال بها ليوتار حول ما بعد الحداثة، بما يلي:

- نهاية عصر ابتكار النظريات أو النظريات الشاملة في مجال السياسة والاجتماع.

- فقدان نظرية مطلقة في مجال الأخلاق والقيم.

- التشكيك الأخلاقي (moralskepTicism) سوف يفضي في النهاية إلى عالم اعتباري.

- إعطاء المعنى أهمية استثنائية.

ومن جهته، يذهب جيمسون إلى أن عوامل ظهور ما بعد الحداثة، هي:

- فقدان العمق وضعف النظرة إلى التاريخ.

- الخمود العاطفي الذي حصل في العصر ما بعد الحداثوي.

وهكذا فإن وضع ما بعد الحداثة يتّصف بعدم التأصيل، أي بعدم الاعتراف بأن هناك قيماً ثابتة. وعلى هذا الأساس يلاحظ العلماء أن من صفات مذهب ما بعد الحداثة؛ الذاتية، والتفكيكية، والتعددية، والاختلاف، والعشوائية.

موجز ما ذهبنا إليه، يفتح لنا نافذة للقول إن الحداثة وما بعدها ضفتان لنهر معرفي واحد، وهما بهذه المثابة يستويان على منطق داخلي مشترك، أي بوصفهما حركة جوهرية لعالم يمضي قدماً في أطواره التاريخية المتعاقبة.

 

Email