مفهوم التقشف يشهد تغييراً جذرياً

ت + ت - الحجم الطبيعي

هنالك حرف قرمزي جديد يطل حالياً. في الواقع، إنه الحرف نفسه، «أ»، ولكنه يشكل اختصاراً لكلمة مختلفة تعتبر مخجلة على نحو متزايد: التقشف. فالفكرة التي كانت محببة في عامي 2010 و2011 تحولت إلى مفهوم منبوذ في عام 2012.

وبمجرد أن تترسخ رواية أو فكرة ما في المؤسسات السياسية والإعلامية، فإن زعزعتها تصبح من شبه المستحيل. لذا فإنه عندما تتغير الحكمة التقليدية بالفعل، يكون الأمر جديرا بالذكر. والدليل على التغيير العميق يحيط بنا من كل جانب. ففي مايو الماضي، ساعدت المشاعر المعادية للتقشف الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند على الإطاحة بسلفه نيكولا ساركوزي، أحد مهندسي تدابير التقشف التي تسببت في موجات من الاحتجاج في جميع أنحاء أوروبا، لا سيما في اليونان.

وبعد الانتخابات الفرنسية بيوم واحد، وفقا لوكالة «أسوشيتد برس»، «أصبح التقشف كلمة بذيئة.» وأعلن الرئيس الجديد هولاند أن «التقشف لم يعد يشكل أمرا حتميا».

وفي أسبوع الانتخابات الفرنسية نفسه، أحرز عدد من السياسيين الإيطاليين المحليين المناهضين لسياسات التقشف التي تبناها رئيس الوزراء الإيطالي ماريو مونتي انتصارا مظفرا أيضا. ولكن الخبر الأهم كان في اليونان، حيث هزم الحزبان الرئيسيان، حزب «باسوك» اليساري الوسطي وحزب «الديمقراطية الجديدة» اليميني الوسطي، هزيمة نكراء على أيدي القوات المناهضة للتقشف التي تقاوم اتفاقية التقشف المقترحة من قبل الاتحاد الأوروبي، والموقعة من قبل قادة اليونان في فبراير الماضي.

ووصفت وكالة «رويترز» الانتخابات في اليونان وفرنسا بأنها «جوقة صاعدة من المعارضة لسياسات برلين التقشفية»، فيما كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» تقول: «مع تباطؤ النمو، اجتاحت حركة معادية للتقشف أرجاء أوروبا.»

في اليونان، بعد أن فشل حزب «الديمقراطية الجديدة» في تشكيل حكومة ائتلافية، تم إسناد هذه المهمة إلى الفائز بالمركز الثاني البارز والمنتقد للتقشف ألكسيس تسيبراس، زعيم حزب «سيريزا» اليساري المتطرف. وعلى الرغم من أنه فشل كذلك في تشكيل ائتلاف، محتما إجراء جولة أخرى من الانتخابات في 17 يونيو، فإن تسيبراس يمثل صوت الشعب على نحو متزايد.

والحكمة التقليدية آخذة في التغير حتى في ألمانيا. فبعد أسبوع من الانتخابات اليونانية، قدم حزب المحافظين الذي تتزعمه بطلة التقشف أنجيلا ميركل أداء ضعيفا في أكبر ولايات ألمانيا من حيث عدد السكان، شمال الراين -وستفاليا.

وبعد بضعة أيام من الانتخابات الألمانية، عقدت قمة مجموعة الثماني في كامب ديفيد، حيث أعطيت لغة النمو الأسبقية على لغة التقشف. واستهل القادة بيانهم بقولهم: «واجبنا هو تعزيز النمو وفرص العمل»، في حين قال الرئيس الأميركي باراك أوباما: «لقد بات هناك إجماع على وجوب بذل المزيد من الجهود لتعزيز النمو وإيجاد فرص العمل في الوقت الراهن».

وبعد ذلك بأيام، وربما على نحو أكثر إثارة لمشاعر الصدمة، بدا التغيير في الحكمة التقليدية المتعلقة بالتقشف وكأنه تمكن من اختراق الحزب الجمهوري. ففي مقابلة مع مارك هالبرين من مجلة «تايم»، سئل ميت رومني عما إذا كان سيجري، في حال انتخابه، تخفيضات كبيرة في الميزانية على الفور. فأجاب قائلا:

«إنك لو اقتطعت تريليون دولار، على سبيل المثال، من السنة الأولى من الميزانية الفيدرالية، فإن ذلك من شأنه أن يقلص الناتج المحلي الإجمالي بما يزيد على 5%. وهذا يعني قذف أميركا إلى حالة من الكساد أو الركود. لذا فإنني، بطبيعة الحال، لن أفعل ذلك. فأنا لا أريد لنا أن ندخل في حالة من الركود من أجل تحقيق التوازن في الميزانية».

وكان ذلك ترديدا لأصداء تصريحاته في فبراير الماضي، عندما أدلى بملاحظة بديهية مفادها: «إذا لم تقم سوى بالخفض، وإذا كان كل ما تفكر به هو خفض الإنفاق، فإنك عندما تخفض الإنفاق، تتسبب في تباطؤ الاقتصاد».

وحتى لو لم يغير الجمهوريون رأيهم بشأن إحداث تغييرات فعلية في السياسة، فإنهم فيما يبدو يدركون أن الشعب بات يعارض التقشف. ويمكن ملاحظة هذا في خطاب جديد أدلى به مهندس التقشف في الحزب الجمهوري بول رايان. ففي ظهور له في برنامج «ميت ذا برس»، قال رايان، على نحو مثير للضحك:

«إن ميزانيتنا تقوم بشكل أساسي على وضع حد للتقشف.» ذلك صحيح، والشعار الجديد الذي يرفعه الحزب الجمهوري هو أننا نستطيع «وضع حد للتقشف» بالتقشف. وبالطريقة نفسها، فإننا نستطيع «وضع حد» لهشاشة العظام من خلال القفز أمام حافلة ما.

فكيف طرأ هذا التغيير؟ وكيف يمكن تغيير الحكمة التقليدية؟ في حين أنه لا توجد أية قواعد صارمة وعاجلة، فإن التغيير يعود في الغالب إلى عاملين اثنين: ضغط الشعب والقيادة. والتغيير، عندما يتعلق الأمر بالتفكير في التقشف، نجم عن مزيج من العاملين معا: أحدهما يدفع إلى الأعلى من أسفل، والآخر يضغط إلى أسفل من الأعلى.

وألكسيس تسيبراس، الذي قد يصبح رئيس الوزراء اليوناني المقبل، يضغط حتما إلى أسفل من الأعلى. وعن مهندسي اتفاقية الاتحاد الأوروبي للتقشف، قال تسيبراس: «لا يتمثل هدفنا في الابتزاز أو الإرهاب، وإنما في هزهم.» ولأن الحكمة التقليدية تصبح راسخة للغاية، فإن هذا هو المطلوب غالبا - هز النظام إلى طريقة تفكير جديدة.

ومن العوامل الأخرى في هذا التحول عن التقشف البيئة الإعلامية الجديدة، التي تضم عددا أقل من حراس الحكمة التقليدية. إذ تسمح وسائط الاتصال الاجتماعي بتضخيم الحقيقة. وهي تصل بين قائلي الحقيقة، وتحصنهم، وتوفر لهم ترسانة من الأدوات التي تمكنهم من كسر جدار الحكمة التقليدية ببطء ولكن بلا هوادة. وقد حتمت حركة «احتلوا وول ستريت»، التي غذتها وسائط الاتصال الاجتماعي، توسيع النقاش حول هذه المسألة في المحادثة الوطنية، بل الدولية.

ولا شيء من ذلك يعني أننا سنشرب نخب النظرية الكينزية عما قريب. ولكن من الواضح أن قوى التقشف آخذة في التراجع. وهذا أمر جيد جداً.

 

Email