حرارة وغبار ورطوبة

ت + ت - الحجم الطبيعي

حاولت الأسبوع الماضي مساءً أن أجلس في حديقتي كدأبي منذ أواخر الشتاء، إلا أن رياح «السموم» حالت بيني وبين التمتع بذلك. وهذه الرياح التي تتعرض لها الكويت وشرق الجزيرة العربية ووسطها، إنما تهب علينا من بادية الشام مروراً بصحراء غرب العراق، فتصلنا جافة إلى أبعد ما يكون الجفاف، لذا سميت بالسموم لأنها كالسم القاتل، فهي تسلخ جلد الإنسان، كما السم الذي يحرق أحشاءه. وهذا الموسم يسمى «البوارح»، وهو يمتد إلى منتصف الشهر السابع، وينقسم إلى البوارح الصغرى (وهي التي نمر بها هذه الأيام حيث ينضج المشمش)، والبوارح الكبرى حيث نضج البلح.

والغريب أن بشرتي وبشرة أقراني كانت تتحمل رياح «السموم» هذه حينما كنا أطفالاً، إذ كنا نقطع مسافات طويلة قاصدين ساحل البحر، مشياً على الأقدام ونحن حفاة حاسرو الرؤوس، دون أن نشعر بالرمضاء الحارقة، وبأشعة الشمس اللاهبة المتسلطة على رؤوسنا. بل كنا نقضي سحابة نهارنا سابحين في البحر إلى أن تصل الشمس إلى رابعة السماء، فنطفق راجعين دون أن نتذوق طوال هذه المدة "رشفة" من الماء.

وكان المحظوظ فينا من كانت عنده «خرجية» (أو مصروف جيب)، وهي عبارة عن عشرين فلساً يشرب بها قنينة «بيبسي» أو «كولا»، ومن ليست عنده يقول لصاحبه "نصك" ليشاطره قرينه بنصف قنينته، مع أن قنينتين كانتا لا تكفيان من شدة العطش!

وكانت أسوأ الساعات في تلك الأيام، حينما يكون الجو مغبراً بشدة، حيث كان يتعذر الجلوس في «الليوان» لتناول وجبة الغداء، فكنا نحبس أنفسنا في حجرة واحدة ونغلقها لكيلا يدخل الغبار علينا، وكانت الحجرة بالطبع دون مكيف ودون مروحة أيضاً. وما زالت الصورة بادية أمامي كيف كنا نتفصد عرقاً ونرى الأتربة.

وقد ملأت الحجرة ولف جوها الغبار، الذي كان ينسل من فتحات البنجرة (الشباك الخشبي). وكان هذا المنظر يستمر لساعات طوال، يكون فيها الصمت مطبقاً على الجميع. ثم حين يرخي الليل سدوله، كنا نفترش سطح المنزل، متضرعين إلى الله أن يخفف من هذه الوعثاء لكي يغمض لنا جفن.

وما إن ينتهي موسم الغبار أو الطوز، حتى يدخل علينا موسم الرطوبة الخانقة في الشهر الثامن. وكانت تمر علينا ساعات من المعاناة أوقات الظهيرة، أو في الهزيع الأول من الليل، حيث تتبلل المطارح والشراشف والمخدات بحيث كان يستحيل النوم عليها. لكن لم تكن كل الأمسيات على منوال واحد، إذ كانت تمر علينا فترات صحو ممتعة، حيث كانت الوالدة تفرش الفراش، فيبرد بعد صلاة العشاء، إذ كان نسيم البحر يدخل إلى البر ملطفاً الجو، وكنا تبعاً لذلك "نغط" في نوم هانئ. وقبل عدة سنوات حاولت النوم على سطح بيتي لأعيد الذكريات، فلم أقدر على ذلك، ليس لحرارة الجو فحسب، بل للإزعاج الصادر عن المكيفات المركزية المنصوبة على سطوح المنازل. فتيقنت أن الزمن قد تغير وأنه لا محالة من مجاراته!

وكأطفال ـ والحديث هنا عن نصف قرن انقضى ـ لم يكن يردعنا لا «اللاهوب» وهو التسمية الأخرى للسموم، ولا الطوز والغبار، أو ثقيل الدم الرطوبة، إذ لم تكن الأحوال الجوية تغير ما اعتدنا ودرجنا عليه كل صيف في أيام العطلة المدرسية الطويلة، وهو الذهاب إلى البحر صباحاً إلى الظهيرة، ثم لعب كرة القدم عصراً.

كنا متأقلمين مع البيئة شأن الضِباب (جمع ضَب وهو حيوان زاحف يعيش في الجزيرة العربية)! ولم يكن بيننا السمين، بل كنا نميل إلى النحافة المفرطة، فمن أين كانت ستأتي لنا السمنة ونحن طوال النهار في حركة دائبة؟! ثم فوق هذا كان ممنوعاً علينا أن نأكل بين الوجبات الرئيسية، وحتى دخول المطبخ كان محرماً علينا. أما عند الغداء والعشاء، فكنا نأكل جميعاً في صينية واحدة، والشاطر من ظفر «بالإدام» (أي اللحم أو الدجاج أو السمك)، هذا إن وجد الإدام أصلاً.

كيف تغيرت حياتنا إلى ما نحن عليه من نعيم وترف؟ إنه شيء أشبه بالأحلام!

 

Email