الجواري والحرائر

ت + ت - الحجم الطبيعي

كثيراً ما سمعت وأسمع في زمن الربيع العربي، من يستصرخ وينادي إخوانه في العروبة والإسلام، وربما في الإنسانية، بأن "الحرائر تنتهك أعراضهن ويعتدى عليهن"!

ويثير هذا النوع من الصراخ والاستغاثة عندي، علامات استفهام حول خطاب هذا الربيع، وإن كان قد استطاع أن يتجاوز الموروث ليعبر عن واقع حال الأمة العربية الآن، وحال المرأة فيها بعد أكثر من قرن من حركة تحررها. لكنني حينما أسمع لفظ "الحرائر" الذي هو في مقابل "الجواري والإماء"، من جماهير يفترض فيها أنها تجاوزت خطاب الماضي كما تجاوزه الواقع، فإنه يتملكني العجب، إذ أرى أننا في حاجة إلى ثورة ثقافية، قبل أن نكون بحاجة إلى ثورة سياسية.

والمستصرخ لنجدة الحرائر (دون سواهن)، لا يعلم مكانتهن في مقابل مكانة الجواري والإماء عبر تاريخنا، خاصة في العصر العباسي وما تلاه. يذهب د. عبد السلام الترمانيني في كتابه القيم: "الزوج عند العرب في الجاهلية والإسلام"، إلى أن الرجال كانوا "يجمعون بين الحرائر والإماء، فيتزوج الرجل أربع نساء من الحرائر ويتسرى بما شاء من الإماء دون تحديد". وقد نشط الاتجار بالجواري تبعاً لذلك، "وتبارى النخاسون في تثقيفهن بالأدب والشعر والغناء، وتجميلهن بأنواع الزينة، وإبرازهن في أبهى حلة، بحيث يسبين القلوب ويسحرن العقول ويأخذن بالألباب" (ص 285-286).

ويضيف الجاحظ سبباً آخر وجيهاً لافتتان الرجال بالجواري دون «المهيرات» وهن الحرات ذوات المهور الغالية" فيقول، ونحن ننقل من "ضحى الإسلام" لأحمد أمين، الجزء الأول ص 10: "إن الرجل قبل أن يملك الأمَةَ قد تأمل كل شيء منها، وعرف ما خلا حظوة الخلوة، فأقدم على ابتياعها بعد وقوعها بالموافقة. والحرة إنما يستشار في جمالها النساء، والنساء لا يبصرن من جمال النساء وحاجات الرجال". ثم يردد قولاً مشهوراً للعرب، وهو أن "الأمَة تُشترى بالعين، وترد بالعيب، والحرة غُلٌّ في عنق من صارت إليه"!

وبزت الجواري الحرائر في نشر الشعور بالجمال وما يتبعه من فنون جميلة، وفي إلهام الشعراء والأدباء، كما يقول الباحث عمر رضا كحالة، الذي يحاول تعليل ذلك في كتاب له بعنوان: "دراسات اجتماعية في العصور الإسلامية"، فيقول: "كان الناس يغارون على الحرائر أكثر مما يغارون على الجواري، ويُحَجِّبون الحرة ويشددون في تحجيبها، ولكن الجارية شأنها غير ذلك، فهو لا يُعيَّر بها كما يعير بقريبته الحرة. ثم إنها سافرة إلى حد بعيد بحكم أنها في كل وقت عرضة لأن تباع وتشترى، وهي تقضى للرجل حوائجه. أما الحرائر فلا يقع عليهن إلا نظر أقاربهن، لذلك كان طبيعياً أن الأدباء والشعراء يغذون أدبهم بالجواري أكثر مما يغذونه بالحرائر"!

"وعُني الرجال بتعليم الجواري كما يظهر أكثر من عنايتهم بتعليم الحرائر ـ يضيف كحالة ـ ودعاهم إلى ذلك الناحية التجارية، فإن الجارية إذا قومت بمائتي دينار جاهلة، قومت بأضعاف ذلك مغنية أو أديبة. أما الحرائر فلم يكن يعني بتعليمهن وتربيتهن إلا طبقة قليل٧غ ة، وهي طبقة الأشراف ومن في حكمهم" (ص 277-278).

وكانت لهذا الولع بالجواري واقتنائهن والتسري بهن آثار خطيرة، فمن الناحية الاجتماعية أصبحن صاحبات الحظوة في الأسرة، وفي مقابل ذلك "انحط مقام الحرائر فوقرن في البيوت وحرمن العلم فسطا عليهن الجهل، وحرمْن مِن الحرية فسطا عليهن الخوف والحرمان"، كما يقول الترمانيني. أما من الناحية السياسية، فإن تسري الخلفاء بالجواري والإماء أدى إلى تقدم أبناء الجواري، بما حظين به من إيثار الأزواج. وكان من أمر ذلك ـ كما يواصل الترمانيني ـ أن الخلافة العباسية قد انحصرت في أبناء الجواري، فنحن إذا استثنينا أبا العباس السفاح ومحمد الأمين، فكل خلفاء بني العباس من أبناء الجواري والإماء" (ص 286 287).

هذا كان حال المجتمع حينما كان يطلق على بعض النساء الحرائر والأخريات الجواري والإماء، ولا أظن أن البعض من أهل الربيع العربي الذين يستصرخون لنجدة الحرائر دون سواهن، يقصدون ذلك، إلا إذا كان هذا البعض يريد بعث ذلك النظام القديم، وإعادة عقارب الزمن إلى الوراء!

 

Email