وقت كتابة هذه السطور كانت النتائج الأولية للجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية المصرية، تشير إلى إعادة شبه مؤكدة بين طرفين متنافسين. على أنه، وبغض النظر عن شخصية الرئيس المصري القادم، يعن للمرء سؤال جوهري: هل الرئيس الجديد قادر على إنهاء حالة عدم الاستقرار التي تعيشها مصر منذ عام ونصف تقريبا؟ وهل هو قادر على إنهاء حالة الاصطفاف الأيديولوجي والاستقطاب السياسي والتشارع العقائدي في الشارع المصري؟
لتكن الإجابة من داخل الشارع المصري، فرغم أن الجولة الأولى من الانتخابات جرت في أجواء ديمقراطية إلى حد كبير جدا وبشفافية واضحة، إلا أنها كذلك جرت إما برسم طائفي عقائدي أو بتوجه سياسي أيديولوجي، وهما طريقان لا يمكن لهما أم يلتقيا على وحدة واستقرار الصف المصري.
وبمعنى أكثر وضوحا، فإن الجولة الأولى جرت بين قطاعات ثلاثة؛ تيار الإسلام السياسي من جهة، والتيار القومي من جهة ثانية، وتيار الفلول ـ كما يطلق عليه ـ من ناحية ثالثة.
المفاجأة الكبرى في الذي جرى، هي عدم قدرة جماعة الإخوان المسلمين على حشد كتل انتخابية جديدة تتجاوز المعتنقين لفكر الجماعة والمؤتمرين بأمر المرشد، رغم وعود الدكتور مرسي مرشح حزب الحرية والعدالة بالفوز بنسبة ٪60 من الجولة الأولى.
والأمر المتوقع كان التصويت القبطي وبنسبة لا تقل عن ٪80 للفريق أحمد شفيق، وهذا أمر وإن كان يدخل ولا شك تحت دائرة حرية الرأي، لكنه حتما سيصب مستقبلا في خانة عدم الاستقرار، لا سيما إذا تم النظر لهذا الفصيل المصري على أنه ساعد على عودة إنتاج النظام السابق مرة أخرى.
اللااستقرار لا يتوقف عند هؤلاء فقط، وإنما ينسحب لقطاعات مصرية أخرى، لا سيما من أصحاب الأعمال وبليونيرات النظام السابق، والمنتفعين من قطاع السياحة، والطبقة المصرية الراقية ذات الميول الغربية الواضحة، وقد أثبت هؤلاء أنهم كتلة تصويتية لا يستهان بها.
ضمن المخاوف التي نتحدث عنها، حالة الفصام السياسي إذا جاز التعبير، والتي باتت كائنة في نفوس الشباب المصري، وقد ذهب غالبيته للمراهنة على المرشح حمدين صباحي الذي شكل طريقا ثالثا بين التيار الإسلامي وتيار الفلول، وممثلا كذلك لفكرة العدالة الاجتماعية وساعيا لتنفيذها على الأرض، وهؤلاء لا يعلم أحد إلى من ستتجه أصواتهم وقواهم مع رئيس إما ديني التوجه أو من المحسوبين على نظام الرئيس السابق.
وفي واقع الحال، هناك نقاط كثيرة تنشر المخاوف لجهة شق النسيج الاجتماعي المصري، رغم المحاولات الدؤوبة للم الشمل، وجميعها تتبلور في إنذار مخيف تجمع عليه أصوات كثيرة ومؤثرة بالنزول إلى الشارع، وربما استدعاء حالة من العنف الدموي لم تعرفها مصر طوال ثورتها السلمية، إذا فاز المرشح المستقل أحمد شفيق.
ورغم وعود الجيش المصري بحماية حق المصريين والاعتراف بشرعية الصناديق الانتخابية، إلا أن تلك التهديدات الدموية تخيف أكثر مما تطمئن.
وعلى الجانب المقابل، إذا فاز الدكتور محمد مرسي مرشح حزب الحرية والعدالة الجناح السياسي للإخوان المسلمين، فإن هناك مخاوف من نوع آخر، ربما تقتضي لاحقا إجراءات أكثر إيلاما، من عينة الانقلاب العسكري الذي أشار إليه اللواء عمر سليمان، خوفا من أن تؤدي سيادة التيار الإسلامي لإفساد العلاقة المصرية، لا سيما علاقة المؤسسة العسكرية، بكل من إسرائيل والولايات المتحدة.
هذه المخاوف دعت "إريك تراغر" من معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، لأن يؤكد عبر ورقة بحثية له مؤخرا، على انه "من غير المرجح أن تعمل الانتخابات على استعادة الاستقرار السياسي، حتى وإن اتسمت عملية التصويت هذا الأسبوع بالنزاهة والمصداقية"..
لماذا؟ بجانب إشكالية عدم وجود دستور يحدد صلاحيات الرئيس، والتنازع المحتمل بين ذاك الرئيس والبرلمان، وبين المؤسسة العسكرية التي لا ولن تقبل بالمساس باستحقاقاتها ومكاسبها الأدبية والمادية عبر العقود الستة الماضية، فإن الانتخابات.
وعلى حد قول تراغر، لن توقف انزلاق مصر نحو الإفلاس، وخاصة مع وصول الاحتياطي من النقد الأجنبي إلى 15,2 مليار دولار فقط، وحدوث هبوط إضافي في هذه الاحتياطات قد يهدد الدعم للمواد الغذائية والمحروقات، الأمر الذي سيطلق العنان لفوضى لم يسبق لها مثيل، نظرا لأن ما لا يقل عن 40% من المصريين يعيشون على أقل من دولارين في اليوم الواحد.
وبحسب البيانات الإحصائية الخاصة بالإقبال على الانتخابات، فإن هناك أكثر من 50% من الذين يحق لهم التصويت لم يذهبوا إلى اللجان الانتخابية... فهل يعني ذلك عدم رضاهم عما يجري، وربما عن شخوص المرشحين أنفسهم؟
قد يكون ذلك بالفعل صحيحا، لا سيما في قطاع عريض هو قطاع شباب الثورة الأكثر ضيقا وتبرما بما يجري، لإحساسهم بالعجز ثم القهر عن المشاركة الحقيقية، بعد أن تم تهميشهم من القوى صاحبة النفوذ التقليدي في الشارع المصري البطريركي القبلي العصبوي، أو الغالبة عليه تلك السمات.
ليست المعضلة الحقيقية في انتخاب رئيس مصر، بل الإشكالية الحقيقية في مدى قدرة هذا الرئيس على توحيد صفوف المصريين تحت رايته، وهو أمر يُخشى أن يكون بعيد المنال في ضوء الكثير جدا مما لم نشر إليه، والقليل مما ذكرنا. ربِّ احفظ مصر من أبنائها، أما أعداؤها فهي قادرة عليهم.