الانفصام الجماعي والانفصال السياسي

ت + ت - الحجم الطبيعي

أيقظ الاحتلال الأميركي للعراق المشاعر الطائفية والنزعات الانعزالية لدى فئات مختلفة. تختلف الطوائف حسب الأعراق والأديان والمذاهب، وحتى الأفكار السياسية! دخل العراق في ما يُعرف أميركياً بدوامة الفوضى البنّاءة، تتأثر به مجموعات بشرية عريضة، خاصةً في المناطق المجاورة.

قادة المذاهب، ومعهم المصدِّقون لهم والأتباع، في حالة تأهب قصوى، تصل إلى حد بدء الاشتباك مع الآخرين حال صدور أوامر أو فتاوى بذلك. لكل طائفة، مرجعية واحدة على الأقل، توجه الأتباع على مدار الساعة، تستحوذ على خيالهم وعواطفهم وأفكارهم وتطلعاتهم ومآربهم.

تحت غطاء حرية الإعلام واحترام الرأي الآخر، ومشبعةً بنزعة الانتقام من الأنظمة المستبدة، تمتلك القيادات الطائفية فضائيات ووسائل إعلاميةً تعمل على مدار الساعة، تبث مادةً إعلاميةً تحريضيةً تخدم، بقصد وبغير قصد، مآرب وخطط أعداء البلاد والأمة والسلام والتآخي في المنطقة.

العدو المتربص سعيد جداً بهذه الفئات، فهو يمدها ما أمكنه بكافة أشكال الدعم السياسي والمعنوي والمادي. حقيقةً هي ليست بحاجة لتوجيهات من أحد؛ فهي تقوم بعملها التمييزي التحريضي الهدام، على أكمل وجه ممكن وبشكل تلقائي، بل وبدوافع يعجز العالم عن وقفها عنها.

تخلق المادة الإعلامية التحريضية الانتقامية انفصاماً (شيزوفرينيا) حاداً لدى الأتباع بشكل رئيس، والمستمعين بشكل جانبي متنامٍ. يُصاب الشخص الضحية بحالة من التخشّب الذهني وعقدة الاضطهاد، والانسحاب من المجتمع.

هذا إلى جانب حالة من نقص القدرة على التمييز بين الأمور المطروحة، إلا بفتوى من مرجعيته المعتمَدة. حبذا لو صرف هؤلاء جزءاً يسيراً من جهودهم، لحض أتباعهم على إنتاج ما يعادل ولو حبة دواء، ولو بالتوازي مع نشاطهم "التحرري".

مع الزمن تظهر كانتونات حزبية طائفية، بدرجة متقدمة من النقاء! لا تقبل الأمر والنهي إلا من مرجعية عامة للمجموعة. أكثر المرجعيات سطوعاً وطلباً عليها، هي المذهبية والحال هذه. مرجعيات لا تبالي لو تجد نفسها منعزلةً، ولو في زقاق واحد من إحدى المدن، تكتفي بما لديها من أتباع على قلتهم أو كثرتهم، تقيم معهم بعض الطقوس المذهبية «الترويحية».

بدايةً، القادة الطائفيون أنفسهم مصابون بانفصام في الشخصية واضح؛ تمكنوا من نقل عدواه لغيرهم في الجوار القريب والبعيد، وحتى عبر العالم. العناوين الرئيسة التي يتغنون بها تكراراً، هي المظلومية والتظلم والشعور بالاضطهاد والحرمان، ومرور عقود وعهود والحقوق مهضومة أو منكَرة من الطرف الحاكم. عناوين حقيقةً تهدف إلى خلق تمرد عام يسيطر عليه الحنق والغضب ونزعة الانتقام، وأخيراً الانفصال عن الدولة والمنطقة والأمة.

ما حدث في جنوب السودان مثل حي على تطوير نزعة الانفصال، بعد استشراء ظاهرة الانفصام الجماعي الحاشد لدى فئة الجنوبيين. استُغل الوضع الاثني والموقع الجغرافي الاستراتيجي في بلورة ظاهرة، كان من الممكن استيعابها من قبل نظام ديمقراطي مركزي؛ نظام يتمتع بالحد الأدنى من العقلانية والواقعية، والانفتاح في التعامل مع الآخرين. الأوضاع في شمال العراق وجنوبه ووسطه، وبعض مناطق ليبيا وسوريا، مشابهة إلى حد كبير لما جرى في جنوب السودان؛ الدوافع قبلية ومذهبية وعرقية ودينية وسياسية.

عسى أن تستوعب حكومات التغيير الدروس، وتقوم بعمل كل ما يمكن من أجل تفادي أعمال مجموعات الانفصال. هذه الأخيرة صرفت الكثير من الجهود، واكتسبت الخبرات في سبيل تحقيق أهدافها البعيدة عن أهداف وتطلعات البلدان، والأمة ككل.

هنالك دول عربية غايةً في الصغر الديمغرافي، لن ترحمها مجموعات الانفصال المصابة بداء الانفصام المزمن. هذه تسعى منذ حين للتمرد على المركز، ولا تقيم أي اعتبار لدين أو معتقَد أو مصلحة عامة. ركبت عقولَ قادتها فكرةُ التمرد، إما للسيطرة أو الانفصال نكايةً بالمركز؛ أو للشهادة من أجل جنة القادة الموعودة، في الدنيا والآخرة!.

 

Email