في خضم المعارك المتباينة التي تعيشها مصر هذه الأيام، وفي مقدمتها معركة اختيار الرئيس الجديد، يبدو الأفق الأميركي حائرا مضطربا، منقسما حول ما هو المطلوب من القاهرة ومن الرئيس المصري الجديد. هل من حتمية ما لاستمرار العلاقة بين البلدين؟ هذا أمر لا شك فيه، غير أن الشكل الذي ستمضي عليه، والآليات الجديدة التي ستحكم نوعية العلاقة، هي محل النقاش.
حتما إن مصر والمصريين لن يرتضوا بحال من الأحوال استمرار دور شرطي الحراسة للمصالح الأميركية في المنطقة.. هل تحاول واشنطن أن تستبق الأحداث وتضع محددات العلاقة الجديدة مع؟ يبدو أن ذلك كذلك.. كيف؟
في الأسابيع القليلة الماضية شهد معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، مؤتمر ما يسمى بـ"مؤسسي واينبرغ"، وتحدث فيه نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي "دنيس ماكدونو"، وضمن كلام كثير وقضايا متنوعة، توقف عند مصر بالقول إن البيت الأبيض "في يقظة تامة" في ما يتعلق بالحكومة الإسلامية القادمة في مصر، ويركز على جملة قضايا... لاحظ معي القضايا التي تترصدها واشنطن لمصر القادمة.
في المقدمة يقول ماكدونو: "التزام الحكومة الجديدة بحماية حقوق الأفراد، ودعم المجتمع المدني، ومعاملة المسيحيين الأقباط، ونبذ العنف، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، والمحافظة على معاهدة السلام مع إسرائيل، وحفظ الأمن في شبه جزيرة سيناء..
من يصدق المرء، واشنطن التي تظهر احتضانا في أوقات ما لفكرة الحكومة الإسلامية في مصر؟ أم واشنطن التي تضع مثل تلك القيود عليها؟
غير أن المدرك للازدواجية الأمريكية المعتادة، لا يفاجئه الأمر، فهي واشنطن ذات الأقنعة السبعة التي تتحدث بخلاف ما تفعل.. هل يعوزنا دليل؟
بعيدا عن السياسة، وليكن محل الاختبار هو الاقتصاد.. ففي مايو 2011 تحدث الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن إسقاط مليار دولار من الديون المصرية، وفي أواخر يناير الماضي، قال وكيل وزارة الخارجية الأمريكية روبرت هورماتيس، وهو عضو في وفد أجرى محادثات لم يسبق لها مثيل في منتصف الشهر عينه مع جماعة الإخوان المسلمين، إن :" واشنطن تريد تقديم المزيد من المنافع الفورية للمصريين، وإن الرئيس أوباما يزمع تسريع إيقاع المساعدات الأمريكية لمصر"..
أين ذلك من واقع الحال؟ الجواب عند السيدة فايزة أبو النجا وزيرة التخطيط والتعاون الدولي: "التعهد الأمريكي بإسقاط مبلغ مليار دولار من الديون المصرية، لم يتحقق منه أي شيء على أرض الواقع حتى الآن". هل باتت عقيدة اللا يقين تحكم سياسات إدارة أوباما، ولهذا نرى اضطرابا واضحا في سياستها الداخلية والخارجية على حد سواء؟ هذا ما يؤكده "دان بلومنتال" عبر مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية ذائعة الصيت. فأوباما، على سبيل المثال، يعلن عن رفع عديد القوات الأمريكية في أفغانستان، ثم يسارع إلى تحديد موعد انسحاب هذه القوات.
هل لذلك لا يعرف الحلفاء والخصوم ما هي خطوة إدارة أوباما القادمة؟ ربما يكون ذلك صحيحا في ما يختص بإدارته، لكن المؤكد أن هناك ثوابت في واشنطن تريدها من حاكم مصر الجديد، ولعل الثابت الأول والأهم بالنسبة لها هو أمن إسرائيل، وضرورة أن يكون النظام المصري الجديد ورئيسه، بوابة تأمين للدولة العبرية، وإلا فالأسوأ لم يأت بعد.. ما الذي يؤكده هذا الحديث؟
في زيارته الأخيرة والمثيرة للقاهرة، كان السيناتور الديمقراطي والمرشح السابق للرئاسة الأمريكية "جون كيري" مهموما، قبل أي شيء وبعد كل شيء، بحمل خرائط للتنظيمات الجهادية المنتشرة في سيناء، وهي كما ادعى تعمل بدعم من حركة حماس.
وفي تسريبات معلوماتية فائقة الحساسية، فإن الرجل حمل معه كذلك تقريرا يحتوي أسماء 65 شخصية من شخصيات التنظيمات الجهادية المعروفين، والذين دخلوا مصر خلال فترة الانفلات الأمني، واستطاعوا أن يؤسسوا معسكرات تدريب على العمليات الجهادية.
والشاهد أننا لسنا في مقام الحكم على صحة خرائط وأسماء كيري من عدمها، إنما نلفت إلى ما يهم واشنطن من قاهرة المستقبل، ولهذا لم يكن مفاجئا ما قاله قبل أيام في حواره مع مجلة "ناشونال جورنال" الأمريكية، وبلهجة لا تخلو من التهديد الواضح: "قلت للمصريين بوضوح شديد، إننا نعتقد أن العلاقات بين واشنطن والقاهرة مهمة.. إننا راغبون في الوفاء بالتزاماتنا، ونتوقع منهم أن يفعلوا..
وإذا لم يحدث ذلك فإن كل شيء محتمل". كيري قطعا أكثر صراحة من اوباما حتى لو كانت صراحته تميط اللثام عن أوجه المنتظر عما قريب من واشنطن وعنده انه: "إذا قام المصريون بإلغاء كامب ديفيد، وتقييد الحريات، أو لم يلتزموا بالوفاء بشروط قرض صندوق النقد الدولي، فسيتعين عليهم حينئذ أن يتساءلوا عما ستفعله الولايات المتحدة". أي علاقة دولية تلك التي تنشأ على مشروطية مهينة للكرامة الوطنية المصرية؟
السؤال موجه للقوى الجديدة التي بات قطاع عريض منها يولي وجهه شطر واشنطن، لعلهم يتفكرون ويتدبرون أمر "أرباب دائمة الخذلان لعبادها".