دبي عبر منتدى الإعلام العربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

لأنني كنت عضواً في إحدى لجان التحكيم التي فحصت الأعمال الصحافية، فقد دعيت لحضور منتدى الإعلام العربي الذي انعقد في دبي الأسبوع الماضي، وتسلم فيه الفائزون في هذه الدورة جوائزهم. وأعمال المنتدى التي استمرت يومين كاملين، كانت مكثفة إلى حد كبير، وناقشت عدداً كبيراً من الموضوعات. وقد وجدت في جلسات المنتدى بعض الأفكار النفيسة، وهي أفكار لم تأت فقط من المتحدثين من على المنصة، وإنما جاء بعضها من الحضور في القاعة. كان هناك حماس للمشاركة والتفاعل الذي يثري الحوار ويعمق محاوره.

ورغم أن المتحدثين من الإعلاميين قدموا أفكاراً لامعة، إلا أنني لا أخفي على القارئ الكريم أن أكثر ما مس وجداني لم يأت على لسان أحد من الإعلاميين، وإنما جاء على لسان واحد من رجال الدين. ففي جلسة خصصت لمناقشة «الخطاب الإعلامي الديني العربي»، كان المطران عطا الله حنا رئيس أساقفة الروم الأرثوذكس في القدس، أحد المتحدثين.

والذي مس وجداني، لم يكن فقط ما قاله عن مأساة القدس التي وصفها بأنها تتعرض اليوم إلى «أبشع عمليات التهويد»، وإنما ما أطلقه من تحذير بخطورة العبث بعلاقة المسلمين والمسيحيين في بلادنا.

فهو بعد أن وصف بحق الخطاب الديني المتزمت والتكفيري بأنه «ليس دينياً أصلاً»، ذكّرنا نحن العرب بسياسة «فرق تسد» التي مارسها الاستعمار في بلادنا أياً كان نوعه، واعتبر أن الفتنة بين المسلمين والمسيحيين لا تخدم سوى أعدائنا، وشدد على الحاجة الملحة لتوحيد خطاب المسلمين والمسيحيين في العالم العربي، أصحاب الحضارة الواحدة، واعتبر أن توحد المسلمين والمسيحيين ضرورة ملحة، إذا ما كان الهدف هو مواجهة الاحتلال في فلسطين.

والحقيقة أن ما قاله رئيس أساقفة الروم الأرثوذكس في القدس، خرج بنا من الجدل العقيم الدائر في عالمنا العربي حول الخطاب الديني وعلاقة الدين بالدولة، إلى رحاب القضية المحورية، وهي تقدم هذه الأمة واستقلالها، وهو وضع يده على إحدى أهم العلل التي تعاني منها أمتنا العربية في اللحظة الحالية. فَداء الانقسام على أسس دينية ومذهبية وإثنية، داء فتك ويفتك بالكثير من بلداننا، دون أن ينتبه أطراف إشعال الحريق إلى أن المستفيد الوحيد من المعارك الشرسة التي يخوضونها، هو عدوهم المشترك.

فالسودان تمزقت أوصاله، والطائفية هدت حيل العراق ولبنان، وإشعال الفتنة بين المسلمين والمسيحيين في مصر يظل في تقديري أخطر ما تتعرض له مصر على الإطلاق. ومن يطلع على وقائع ما يجري في كل من تلك الفتن ويعرف مجرياتها، سيدرك على الفور أنه لا يوجد منتصر ومهزوم بين الفرقاء. فالكل مهزوم، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً أمام القابلية للاختراق، بل وللاستعمار.

ولا أجد، في الواقع، غرابة في أن تأتي تلك التحذيرات المهمة من المطران الذي يعيش في القدس المحتلة. فما قد ينساه المتعاركون في غير بلد عربي، يظل حاضراً بقوة في ذهن من يعيش تحت الاحتلال. فلعل الكثير من شعوبنا نسيت ما يفعله الاستعمار لتأكيد سلطانه والسيطرة على الشعوب الخاضعة له، إلا أن القدس لا تزال ترزح تحت نير الاحتلال، ومن ثم فإن حاضرها يفرض نفسه على أبنائها، فلا يمكنهم أن ينسوا للحظة أن الخلاص في التوحد لا في الفرقة.

وجرس الإنذار الذي أطلقه المطران عطا الله حنا، أطلقه من المكان المناسب فعلًا. فهل يوجد ما هو أفضل من مكان احتشد فيه الإعلاميون من شتى أنحاء العالم العربي، حتى تطلق إنذاراً تريد أن تضمن له أن ينشر على نطاق واسع؟

والمنتدى شهد أيضاً أكثر من جدل صاخب، لعل ما أثار ضجة منها كان الجدل بين العالم المصري فاروق الباز والمفكر الجزائري محيي الدين عميمور، حول ما إذا كان جيلهما قد فشل أو حقق بعض الإنجاز. ولعل مصدر الجدل أن الباز في كلمته الافتتاحية، تحدث عن فشل «مطلق» لجيله، الأمر الذي أثار رغبة مفهومة لدى عميمور للدفاع عن الجيل نفسه. والحقيقة أن موقف عميمور كان أكثر موضوعية في تقديري، فلا يمكن الحكم على جيل بكامله -أي جيل- بأنه قد فشل بالمطلق. فكل جيل له إسهاماته وله عثراته، وعميمور لم ينكر عثرات جيله وانكساراته.

عدت إلى مصر وأنا أفكر في ما جرى طوال أيام المنتدى، فأدركت أن ما أدخل البهجة على قلبي حقاً في ذلك المنتدى، كان الدور القوي للمرأة الإماراتية. فمنذ اليوم الأول، استقبلتنا عشرات الفتيات في عمر الزهور، جئن متطوعات للمساهمة في الأعمال التنظيمية للمؤتمر.

وعلى عكس الكثير من المؤتمرات التي حضرتها في شتى أنحاء العالم، فأنت لا تسأل المتطوعات عن شيء إلا وتجد ذهناً متقداً وإجابات واضحة عن استفساراتك. وشابات الإمارات كن حاضرات بقوة في عمل الفريق الرئيس، كما في العمل التطوعي.

ولأنني بحكم عملي الأكاديمي أتفاعل يومياً مع الشباب، وأعرف عن قرب طاقاتهم الإبداعية، فإنني شديدة الإيمان بأن المفتاح لنهضة الأمم، هو فتح المجال واسعاً لإطلاق طاقات الشباب. أما إذا كان للمرأة الشابة دور مثل زميلها الشاب، فإن تلك هي الوصفة السحرية لبناء النهضة الحقيقية، المبنية على أسس سليمة، فلا يوجد مجتمع قادر على النهضة بنصف طاقاته، بينما النصف الآخر معطل.

وما شهدته في دبي من إفساح المجال للمرأة وللشباب، يعني أن طريق النهضة مفتوح على مصراعيه. وحين تكون أمتنا على طريق النهضة الحقيقية، فلن ننشغل مطلقاً بالجدل حول ما إذا كانت الأجيال السابقة قد فشلت بالمطلق أو فشلت فشلاً جزئياً. فالتركيز على المستقبل سيعني التعامل مع الماضي بالوعي الذي يسمح باحترام ما تم إنجازه، وبالجدية التي تسمح باستيعاب دروسه والاستفادة من أخطائه.

Email