سوريا في ربيع التغيير

ت + ت - الحجم الطبيعي

ضمن مسلسل ربيع التغيير العربي، تجري الآن عملية سياسية كبيرة مثيرة للجدل، يمكن تسميتها "معركة السيطرة أو الاستحواذ على سوريا". على السطح، الطرفان المتحاربان هما المعارضة السورية التقليدية وأنصارها من طرف، والنظام السوري وأنصاره من الطرف الآخر. يمتلك كل من الطرفين جيشاً ذا عقيدة سياسية وأيديولوجية مختلفة. يقود الجيشين خصمان لدودان حتى نخاع العظم؛ يود أحدهما لو لم يكن الطرف الآخر موجوداً على الإطلاق. إنه صراع على الوجود بكل ما تعنيه الكلمة.

الطرفان ماضيان في الحرب حتى آخر عسكري ومدني سوريين؛ لم تعد طرق الوساطة السياسية والدبلوماسية والقومية والمحلية والإقليمية، وحتى الإنسانية، تجدي نفعاً. الشعب السوري يدفع فاتورة باهظةً جداً، الآن ومستقبلاً.. حتى إشعار آخر.

ذهب الطرفان إلى منزلق خطير، وأصبحا يعملان ضمن مخطط إقليمي ودولي يهدف إلى تحرير سوريا، أو تحويلها من دولة ذات عقيدة اشتراكية علمانية تقليدية، إلى دولة ثيو- رأسمالية ليبرالية ما أمكن.

الشركات الدولية والإقليمية والمحلية تقف بالمرصاد، تنتظر أي نجاح يلوح في الأفق نحو أهداف التغيير المعلنة. أهداف الشركات ذات الأحجام المختلفة، تتلخص بالاستحواذ على البترول والثروات المعدنية والزراعية، وحتى البشرية. كل هذه أُدخلت مرحلة التقدير والتقطيع والتقييم الرقمي، في اتجاه الاستثمار أو الاستئثار بها، أو الاستحواذ عليها. الوضع شبيه بكعكة العراق قبل 9 سنوات؛ سوريا تخضع الآن لعملية استحواذ عليها من قبل معلومين مجهولين في السر والعلن، خليط فريد من نوعه من أفراد وجماعات.

من المسؤول عن ضياع أو تضييع الدولة السورية هكذا؟! تتوزع المسؤولية على كافة الأطراف، مع تخصيص نسبة ملائمة لكل منها. بدايةً النظام السوري، بسجله الموغل في الفساد والفاحش الأخطر في انتهاكات حقوق الإنسان على مدى عقود من الزمن، يُلام على غالبية ما يجري له وحوله الآن. هذه نتيجة طبيعية لتبعات تراكم أعمال الفساد والرشوة والمحسوبية، واستغلال قوة السلطة ضد شعب عريق طويل عريض.

من جانبها، المعارضة السورية لم تتبع الخطوات العقلانية الحكيمة. خطوات من شأنها حقن الدماء وتوفير مؤسسات ومرافق الدولة من تدمير منهجي مبرمج، داخلي وخارجي.

في سوريا الآن، هنالك جيشان متحاربان فوق أشلاء وأنقاض شعب ودولة؛ كان بالإمكان وبسهولة تجنيبهم ويلات حرب أهلية، تأتي الآن على الأخضر واليابس. ليس كل ما يندرج تحت عنوان ربيع التغيير محبذ أو مُستطيَب أو مفيد. على العكس من ذلك، تبدو الأمور تسير في اتجاه التدمير الشامل للجيش والاقتصاد والمجتمع.

لماذا يُضيع الطرفان كل الفرص والمبادرات والوصايا، التي تحض على توفير المنشآت والمجتمع من تدمير لا يستفيد منه لا الصديق ولا العدو، ولا القريب أو البعيد؟! أيقن الجميع الآن أن الحسم العسكري هو أكثر أنواع الحلول شؤماً ونحساً وخسراناً. قدمت الأطراف الدولية والعربية والإقليمية والمحلية، مقترحات خجولةً لم يُؤخذ بأي منها في الحسبان. السبب هو رداءة مستوى المبادرات وابتعادها عن الواقعية والعملانية، والأهم من ذلك النوايا الحسنة، في التعامل مع الأمور.

دخلت قوى شريرة على الخط، لا تريد لسوريا أن يمر عليها ربيع التغيير دون دمار كامل ما أمكن. يتباهى الطرفان المتصارعان حتى النفس الأخير، ويتبجحان بكارثية الأوضاع، ويلومان بعضيهما بعضاً على التدمير شبه الشامل للبنية التحتية للمجتمع.

على الأطراف المتناحرة في سوريا، أن تدرك أن المستقبل لن يكون وردياً بعد التخلص من النظام الحالي، كما يصوره البعض. تحتاج الديمقراطية وتطبيق حقوق الإنسان، لعهود وعقود قبل الاستقرار والتمكن والاستتباب والتوطد. لا ينفع معها إيقاع البلاد في أتون حروب أهلية وفوضى دموية. ما يُعرف بجهود إعادة البناء والإعمار، سيواجه حائط صد منيعاً بسبب الجروح العميقة التي تحدث الآن. يعود ذلك إلى الجنون! في التصرف وانعدام التسامح إزاء الأمور، وعدم قبول الطرف الآخر كطرف معترف به.

ستجد محاولات الإصلاح والتعمير قلوباً مكلومةً وعقولاً عنيدةً تقاوم محاولات التغيير، مثلما يجري الآن في البلدان العربية التي يُظن أن ربيع التغيير قد مر فيها بنجاح!

Email